اجتماع حضوري في الرياض على هامش أوبك يضم السعودية وروسيا والإمارات و5 دول أخرى    التجارة تدعو لتصحيح أوضاع السجلات التجارية المنتهية تجنبا لشطبها    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد غداً انطلاق بطولة العالم للبلياردو    هييرو يبدأ مشواره مع النصر    الاتحاد بطلا لشاطئية الطائرة    الحزن يخيم على ثانوية السيوطي برحيل «نواف»    المملكة تسجل أقل معدل للعواصف الغبارية والرملية لشهر مايو منذ 20 عاماً    وحدات تأجيرية للأسر المنتجة بمنى وجبل الرحمة    "الجمارك" تبدأ قبول دفتر الإدخال المؤقت للبضائع    افتتاح مشروع "SKY VILLAGE" بحديقة "سما أبها"    تغطية كامل أسهم الطرح العام الثانوي ل أرامكو للمؤسسات خلال ساعات    مواطن يزوّر شيكات لجمعية خيرية ب34 مليوناً    الجامعة العربية تطالب المجتمع الدولي بالعمل على إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة    أمير الرياض يستقبل زبن المطيري المتنازل عن قاتل ابنه    «رونالدو» للنصراويين: سنعود أقوى    أمير الشرقية يهنئ رئيس المؤسسة العامة للري بمنصبه الجديد    "فعيل"يفتي الحجاج ب 30 لغة في ميقات المدينة    3109 قرضا تنمويا قدمته البر بالشرقية وحصلت على أفضل وسيط تمويل بالمملكة    الصناعة والثروة المعدنية تعلن تخصيص مجمعين لخام الرمل والحصى في بيشة    "مسبار" صيني يهبط على سطح "القمر"    الأهلي يلاقي الأهلي المصري في اعتزال خالد مسعد    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة من مطار أبيدجان الدولي    "الصحة العالمية " تمدد مفاوضات التوصل إلى اتفاقية بشأن الأوبئة    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    البرلمان العربي يستنكر محاولة كيان الاحتلال تصنيف الأونروا "منظمة إرهابية"    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    كارفخال يشدد على صعوبة تتويج الريال بدوري الأبطال    ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    جنون غاغا لا يتوقف.. بعد أزياء من اللحم والمعادن.. فستان ب «صدّام» !    توجيه الدمام ينفذ ورشة تدريبية في الإسعافات الأولية    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    غرامات وسجن وترحيل.. بدء تطبيق عقوبة «الحج بلا تصريح»    فيصل بن فرحان يؤكد لبلينكن دعم المملكة وقف إطلاق النار في غزة    بونو: قدمنا موسماً استثنائياً    إحباط تهريب 6,5 ملايين حبة كبتاغون في إرسالية "إطارات كبيرة"    «المدينة المنورة» صديقة للتوحد    مقاطع ريلز التجريبية أحدث ميزات «إنستغرام»    لهو الحيتان يهدد السفن في المحيط الأطلسي أرجعت دراسة ل "اللجنة الدولية لصيد الحيتان"، سبب    روبوتات تلعب كرة القدم!    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    اطلاق النسخة الثالثة من برنامج "أيام الفيلم الوثائقي"    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    قيصرية الكتاب: قلب الرياض ينبض بالثقافة    فرنسا تستعد لاحتفالات إنزال النورماندي    التصميم وتجربة المستخدم    "أسبلة المؤسس" شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    الدفاع المدني يواصل الإشراف الوقائي في المسجد النبوي    تركيا: تكاثر ضحايا هجمات الكلاب الشاردة    إصدار 99 مليون وصفة طبية إلكترونية    ورشة عن سلامة المختبرات الطبية في الحج    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    مشروع الطاقة الشمسية في المركز الميداني التوعوي بالأبواء    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدارات - تلك المرأة ، ذلك الشارع
نشر في الحياة يوم 28 - 12 - 2000


1 - تلك المرأة
أحياناً، أبعد نفسيَ فجأةًَ في سَفَرٍ لا أعرف إلى أين.
في هذا السّفر، أزدادُ ميلاً إلى الظنّ أنّ لي حِلْفاً سِرّياً مع ليل العين.
في هذا الليل، أشعر انّني أتقدّم في مدارج الضّوء.
صِفي، أيّتها العينُ، نَصْرَ السماء على الأرض - هذا النصرَ الدائمَ المتواصل الذي يُتوّج كلَّ مَرْحلةٍ من مراحله بعمل الإنسان وموته.
قولي، أيّتها العين، ما هذا النّصرُ الذي لا يكون إلاّ بانطفائكِ؟
وأين إذاً يذهَبُ الحلم، وتَذهب تلك العينُ العاليةُ: الشّعر؟ وما هذه الدروب التي تبقى كمثل متاجِرَ تبيعُ الشّمسَ والهواء، وتؤاخي بين الجَذْر والعشب؟
كلا، ليست الأيام إلا غيوماً تتحرّكُ في عين الليل. رُبّما لهذا،
لم أعرفِ الوطن ولا أعرفه إلاّ في تلك التُّربة التي تمتدّ حرّةً في جسدي بين البصر والبصيرة.
رُبّما لهذا،
كنتُ، منذ طفولتي، أفتح في كلّ مكانٍ حللتهُ، نوافذَ - عيوناً تدخلُ إليها وتخرجُ - حُرّةً،
خلائق المعنى.
لم يَبْق لهذا الزّمن بيتٌ يُؤوينا إلاّ عينَه. وهي عَيْنٌ تتكلّم - سمعتها مرّةً تَصرخ:
يا لهذه الأرض الطيّبة،
وحده، الدَمُ، يُواصِلُ نُموَّهُ فيها.
وها هيَ مناديلُ الرّيح تُشْفِقَ علينا،
وها هيَ تَتَبلَّلُ بالدّمع.
تلك المرأة التي تبادَلتُ مع عينيها، على مقاعد المدرسة، رسائلَ العمر الأوّل، لا تزال قادرةً على إيقاف العاصفة عندما ترجّ أحشائي.
ولا يزال سحرُها يُخيِّلُ إليّ أَنّني أنظرُ بعينيها أَينما اتّجهت، وأَن الصحراءَ نفسها ليست إلا سَجّادةً من الموج فَرَّ من مُحيطهِ مُفَضِّلاً أن يكونَ غِلالةً لِبَشَرةِ الأرض.
لِرائحةِ تلك المرأة بيتٌ مُتجوِّلٌ يرشح من جدرانهِ ماءٌ اسمهُ الحبّ.
فيما كان صدرَ الحلم الذي خرَج من عينيّ، ليلةَ الجمعة الماضية، ينزفُ غَزيراً على وَجْهي،
كنتُ أَرْتعش وأسألَ الليلة عن مَشْفى.
أذكُر كأنّني رأيتُ عيني تلك المرأة تُومضان، كأنّهما تقولان:
لا مَشْفَى إلاّ في حلمٍ آخر.
2- الشاعر الأول
في الشارع الأول الفسيح الصاخب،
أسيرُ مُرْهقاً. أتحامَلُ على نفسي، وأكاد أن أسقط،
غير انني لا أكادُ أن أجِدَ ما أتمسّكُ بهِ،
إِلاّ أيديَ لا أراها.
واجهات المخازن كمثل أوراقٍ بيضاء،
لكن، لماذا لا أنتهي من قراءتها؟
الزّمن واقِفٌ في شكل عَرَّافٍ
على عتبة المقهى في أوّل الشارع.
الشّمس في الشّارع قبلةٌ خياليّةٌ على قمر اللّيل،
والنّهار كمَثل خِرْقةٍ
مُبلّلةٍ بماءٍ مُوحِل.
لدخان السيّارات نكهة العدم،
مع أنّها تسيرُ في أحضان الوجود.
أعْلكْ، أُعْلكْ مَجْدَكَ
أيّها الدولاب الأسود.
الأفقُ يَنْشرُ ثيابه
على أسلاكٍ مكهربة.
حريقٌ تحت بَشَرة الأرض.
للزّمن أشجارٌ عالقةٌ في الهواء
تتساقَطُ منها ثمارُ المعنى.
3 - الوردة
عندما عرّيت النّافذة من ثيابها، كانت الوردة التي قدّمتُها لنفسي صباحَ يوم غائم، شِبْهَ ذابلةٍ في أَحيصِها الضيّق العُنُقِ كمثل الخاتم.
كان الفضاء الذي يواجه النّافذة عارياً،
وكانت خيوط الشّمس تهم أن تدخل إلى الغرفة كعادتها، عندما لا تكون الغيوم حجاباً عليها.
دخلتِ الشمس وغَمرت الوردةَ بأشعّتها، فبدت أشدَّ ذبولاً، وصارَ لها ظِلٌّ ناحِل:
تمنّيتُ لو أقدرُ
أن أجلس قليلاً في هذا الظلّ.
4 - وسائد
أمسِ، فيما أقومُ بنزهتي الصباحية،
مَدّ ليَ الأفق يَديه اللتين تزيّنهما الخواتم، وكانتا تُداعبان أشعّة الشمس، وتتغلْغلان فيها، كما لو أنّها جدائل امرأةٍ تبكي.
حَرّكْتُ وسائدَ ترقد عليها أشيائيَ الماضية، وأيْقظْتُ جسَد اللحظة.
5 - الشمس
اليوم،
لم يكن للشمس مكانٌ في الشّارع الذي أُحبّ أن أُواكِبَ صخبَه، عادةً،
وغابَتِ الموائدُ التي كانت تمدّها فيه، داعيةً إليها ضيوفَها - الورود، وأنواع الزَّهر، والنّبات.
وكانَ الهواء يتكلَّم لغةً يتعذَّرُ عليَّ فهمَها.
قل لي، إذن،
لماذا تحاول دائماً، أيّها الشّعر،
أَنْ تُقنِعَني
أنَّ الموتَ المشتركَ في التُّرابِ،
حياةٌ مُشْتَركةٌ في الهواء؟
صوت خَفِرٌ كأنه الصّمت
الكلمة التي قدّم بها أدونيس لمختاراتٍ من قصائد الشاعر الألماني المعاصر يواخيم سارتوريوس، تصدر هذا الشهر، وقامت بترجمتها الى العربية الشاعرة العراقية المقيمة في برلين، أمل الجبوري.
الأقرب، الأبعد، الأعمق، الزّائل، الأبديّ: أبعادٌ تتداخلُ في شعر يواخيم سارتوريوس، في تموجات تتآخى حيناً وتتنافر حيناً، في تجاذُبٍ يُشعركَ أنّ الفاجعةَ والغبطةَ توأمان.
ربّما، بسبب من هذه التوأميّة، يبدو قلقُ الشاعر هادئاً وديعاً كأنه بوحٌ عاشق.
ونتساءَلُ، فيما نقرأ هذه القصائد: من يتكلّم هنا؟ المتنوعُ، المتعدد، الترابُ، السماء، أم الفَردُ الإنسان؟ أهو المرئيّ أم اللامرئيّ؟ ذلك اننا لا نكاد نميّز، تحت قبّة هذا الشّعر الذي يَسبح في ماء القلق، بين الشخص وظلّهِ، الشيء وشبحه. وربّما استطعْنا أن نُصغيَ تحتها الى أموات يخاطبون أحياء، وإلى أشياء تتحاورُ مع أشياء أخرى. وربّما شُبِّه لنا أنّ هناك بين أحضان بعض القصائد أصدقاءَ يلوّحون لنا من الأمكنة التي لا عودة منها، وأنّ في أحضان بعضها نساءً ينسجْنَ الزّمَن غطاء يدخلنَ تحته مع عُشّاقهنّ في سَفَرٍ نحو أبديّة الحبّ.
ولئن كان حِسُ الفاجعة والزوال يتغلغل في هذا الشعر، الى أبعد ممّا يتغلغلُ حسّ البقاءِ والغبطة، فإنّنا نشعر أنّه مغمورٌ بِنَدَى التحوّلات، حتّى ليكادُ الزّوالُ أن يبدوَ كمثل البقاء، وتكادُ الفاجعة أن تكونَ عُرساً.
فهذا الشعر الذي يهمسُ به صوتٌ خَفِر كأنه الصَّمت، يبدو رثاءً للوجود لكن في صيغة من المدْح، ورفضاً للأشياء لكن في شكل من الصداقة، وموتاً - لكنه الموت الذي لا يَجِدُ نفسه إلا في ما يمجدُ الحياة. هكذا يبدو هذا الشاعر كأنه يحيا في المفصل الذي يَصِلُ بين الحضور والغياب، في شَرْقٍ يَتَبَطّنُ الغرب، في غرب يتبطَّن الشرق. أو لنقل: يبدو كأنه يحيا آتياً ذاهباً على الجسر الذي يَجْمعُ بين النقائضِ، ويَصِلُ بين الأطْراف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.