حينما يصف أدونيس الشعر بأنه الموت العظيم ويتسمى بهذا الموت له ولأمته، وهو ما نتميز به على العالم ونسبق الآخرين به، حينما يقول ذلك فإنه إنما يقدم وصفاً محكماً للنسق دون أن يدرك ذلك. إنه يقول هذا الكلام في خطبة ألقاها في أميركا انظر "زمن الشعر" ص 181 - 182 وهو يقوله متباهياً بهذا الذي يسميه تفوقاً حضارياً نبزّ به أميركا والعالم. أي أن حداثتنا مقارنة بحداثتهم هي في هذا الموت العظيم. ولا شك في صحة هذا الكلام، غير أنه ليس مفخرة ولا مكسباً، إنه موت فعلي حضاري، وليس موتاً مجازياً شعرياً فحسب. كل ذلك لأن بوابتنا التي اخترناها طريقاً للتحديث هي بوابة لا تفضي إلا إلى هذا الموت العظيم. أما كيف ذاك فهذا ما أوضحه هنا. إننا إذا ما تأملنا في الخلاصة التي يفضي إليها مشروع أدونيس التحديثي فإننا نصل الى السمات التالية: 1- إنه مشروع مضاد للمنطقي والعقلاني، بما أن الشعر لا عقلاني ولا منطقي، وهذه هي الحقيقة الشعرية الأزلية، وهي ما ينهل منه أدونيس ويقول به. 2- وهو مشروع نخبوي وغير شعبي. كما هي الحداثة التي يقول بها أدونيس. 3- منفصل عن الواقع ومتعال عليه. 4- لا تاريخي. 5- فردي ومتعال ومناوئ للآخر. 6- يعتمد على إحلال فحل محل فحل. ويمنح الذات مطلقية قاطعة. 7- يتمركز الوجود فيه حول الذات الشاعرة التي هي ذات غير واقعية وغير عقلانية وغير منطقية، وهذه السمات هي سمات المجاز الشعري. وللمزيد عن ذلك انظر: "النقد الثقافي" ص 294. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت 2000. هذه لا شك هي سمات الشعر، وهي لذا صفات لذلك الموت العظيم، لقد استخلصتها من قراءتي لمشروع أدونيس ووصفه لأفعاله وتصريحه بها. وهذه سمات لن نختلف على القبول بها والقول بها إذا ما كنا نتكلم عن الشعر حصراً وتحديداً، لكن المشكل ينشأ إذا كنا قد جعلنا الشعر، والشعر وحده، هو وسيلتنا الى التحديث. وهنا يحق لنا أن نتساءل هل بإمكان خطاب لاعقلاني ولا منطقي وخطاب ذاتي متعال على الواقع ونخبوي، كما هي سمات هذا الشعر، هل بإمكان هذا الفعل بهذه الصفات أن يكون وسيلة للتحديث، والوسيلة الوحيدة أيضاً...؟! لا شك أن حداثتنا ستكون موتاً عظيماً حينئذ، ولا شك أننا لن نجد أثراً لهذه الحداثة في الخطابات الأخرى السياسي منها والاجتماعي والإعلامي. كما تقول ملاحظة أدونيس وإحسان عباس. بل إن ما نجده هو أن هذه الحداثة الشعرية بذاتها ليست حداثة جوهرية، وسنجد أيضاً أنها حداثة رجعية بمعنى أنها عززت - دون وعي منها - الأنساق السلطوية القديمة، ولذا فهذه الحداثة التي يمثلها أدونيس أدق تمثيل هي خطاب سلطوي/ فحولي، لا يختلف عن الخطاب العربي التقليدي إلا من حيث شكله الظاهري، بينما الجوهر واحد. كما أن سمات اللامنطقي واللاعقلاني، والفردي الذات هي سمات الخطاب السياسي والاجتماعي. مثلما هي سمات الحداثي وسمات الشعري عموماً. في أي قراءة لأدونيس، يجب ألا نغفل عن التمييز بين مستويين من الخطاب أحدهما يمثل النسق الواعي الذي ظللنا نتعامل معه في كل حالات استقبالنا المعتادة، ونتساوى فيه مع أدونيس نفسه، في أننا نقول بالتحديث والحداثة، ونصف معه السمات الجديدة للقصيدة الحداثية، ونقول بالمقولات التي تنص على نظريات في الحداثة وشروطها. وهذا كله مستوى من الوعي الثقافي ظللنا كلنا نتعامل معه، حتى أولئك الذين وقفوا ضد أدونيس وناصبوه الرأي، وهذا المستوى ليس موضع جدل، كما أنه ليس مدخل دراستنا هذه. أما ما اقترحناه من نظرية في القراءة النقدية فهو ما نريد فيه الكشف عن النسق المضمر، وهذا النسق المضمر مشروط أن يكون مناقضاً للنسق الواعي، فإذا لم يتناقضا فلا قضية حينئذ، ونحن نشترط هذا التناقض من أجل كشف حركة الثقافة حينما تحافظ على أنساقها المترسخة عبر تسريبها من تحت مظلة الجمالي، حيث يلعب الشعري والمجازي والجمالي لعبة تسويق وتمرير الأنساق عبر إضمارها، ولا تنكشف الأنساق هذه إلا إذا كشفنا الغطاء وفضحنا التناقض فيما بين المعلن والمضمر، على أن المضمر الناقض للمعلن ليس في وعي المؤلف، كما أنه ليس في وعي الاستهلاك الثقافي العام ولا الممارسة النقدية، خصوصاً الأدبي منها، لغرقه في الجمالي وانصياعه له، ولقد فصلت الأمر في الفصل الثاني من النقد الثقافي غير أني أشير إليه هنا لأقول إن أدونيس - ونحن معه - لم يك يعي هذا التناقض عنده بين خطاب واع ومتعقل يقول بالتحديث وينادي به وله، وبين خطاب مضمر ينطوي على رجعية صارخة. هو خطاب رجعي لأنه غارق في فحولية شعرية تعتمد الذات المطلقة وتتعالى على الواقعي والمنطقي والعقلاني، وتلغي الآخر، وهي صوت مفرد، لا مكان للتعدد فيها، هي خطاب لا يمكن إعماله إعمالاً واقعياً عملياً، وفيه فصل قاطع بين القول والعمل، وهذه كلها هي شروط وسمات الشعر منذ أيام عمرو بن كلثوم الى أدونيس، كما أنها سمات الحاكم والأب الاجتماعي، فهل نقول إذن أن الحداثة - كما يمثلها أدونيس - هي خطاب تقدمي وتحرري...؟! خصوصاً إذا ما رأينا تماثلاً في مجمل السمات بين المجاز الشعري والواقعة السياسية والاجتماعية، وتماثلاً بين الفحل الشعري والطاغية السياسي. هذا ليس نفياً للشعر ولا إلغاء له، لكنه سؤال نقدي عما فعله فينا هذا الموت العظيم حينما تسربت القيم الشعرية من حقل المجاز الشعري الى حقول السياسة والمجتمع، وصرنا نفكر عبر الشعر ونتصرف حسب الشعر وننظر الى أنفسنا عبر الشعر، وصرنا الأمة الشاعرة، وصارت لغتنا اللغة الشاعرة، وهذه صفات حقيقية لكنها ليست مفرحة ولا هي خبر جميل لنا، هي موت عظيم ولا شك، ومنذ تشعرنت الذات العربية، ومنذ وقعت الحداثة في الشعرنة، ونحن في موت عظيم لن ينقذنا منه إلا نقد عظيم وشجاع يسمي الأشياء بأسمائها، وأولها نقد الذات، ونقد الشعرنة التي هي في زعمي علة العلل في الثقافة العربية. * كاتب سعودي. وما سبق هو حلقة رابعة وأخيرة من سلسلة نشرناها مرة كل أسبوعين وتتضمن أجوبة الكاتب عن السؤال: هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟