من بين عشر مسرحيات عرضت في مهرجان عمان السادس لمسرح الشباب في الأردن، يستطيع المتابع تأكيد وجود خامات مسرحية شابة في الكتابة والتمثيل والإخراج والموسيقى والديكور والملابس... على مقدار من الموهبة والعطاء، يؤهلها لتقديم تجارب مقنعة على صعيدي الخطاب والرؤية الفنية، ما يبشر بمستقبل لها، في حال توافرت لها الإمكانات والحوافز التي تدفعها إلى الاستمرار والتطور. وكان صائباً قرار لجنة التحكيم عدم حجب أي من جوائز المهرجان وهي جوائز معنوية. كذلك كانت توصيات اللجنة التي ترأسها المخرج صلاح أبو هنود، وضمت الدكتور عبدالرحمن عرنوس من مصر وسمير عواد من لبنان وسامح حجازي من فلسطين، صائبة إذ أكدت ضرورة التحضير المبكر للدورة المقبلة، وعدم التوقف لأي سبب، ودعم الفنانين الشباب مادياً ومعنوياً، وتقديم أفضل عروض الشباب في مهرجان المحترفين، وتسويق العروض الجيدة في المحافظات، ومنح جائزة مالية في كل حقل، والتشجيع على التأليف بطرح مسابقة لأفضل نص. جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل، أحرزها "الزائر" الذي أعده وأخرجه باسم عوض جائزة أفضل نص معد عن مسرحية للشاعر والناقد المسرحي اللبناني بول شاول، وأدى الدورين فيها أحمد أبو خرمة جائزة أفضل ممثل دور أول وخالد الغويري جائزة التحكيم الخاصة، وحصل عامر كتانة على جائزة لجنة التحكيم الخاصة كمصمم للديكور والإكسسوارات في المسرحية. يبدأ عرض "الزائر" من لحظة دخول المتفرج القاعة الصغيرة، المسرح الدائري ذا الإضاءة الخافتة، ومع إطفاء الضوء كلياً يبدأ بالارتسام فضاء من السينوغرافيا الموحية بالحزن الشفيف والغربة الكثيفة، في مكان هو الخيمة التي تتبدل دلالاتها بتغير شكلها أولاً، وتبدل ساكنها ثانياً. فالخيمة تغدو مسرحاً ومقهى وسيارة وسكة حديداً وحقيبة سفر تُطوى... وفي زمان غامض يشف عن عناصره الأولية المرتبطة بظرف الفلسطيني وتحولات حاله، وما النتيجة المباشرة والصارخة التي آلت إليها الحال سوى جزء من تفاصيل هوية، حيث لوحات "حنظلة"، ناجي العلي، المبثوثة عبر السلايدات، تغطي المشهد كله بما فيه جسد الممثل العاري من جزئه العلوي. القول الأساسي الذي يحمله العرض هو عن غربة الإنسان في المكان، والسؤال الذي يتكرر كلازمة فيه هو عن سبب زيارة "الزائر"، ثم إنهاء زيارته إنهاءً يقود إلى الضياع والقفز في المجهول. فخيبة الأمل وعدم التواصل يدفعانه إلى الانفصال والاغتراب، وهذان يجسدان سمة العلاقة مع العالم. ثم ان هذا الخروج إلى المجهول تعبير عن رفض الواقع والبحث عن بديل، بينما تبقى الشخصية الأولى في حال عجز عن الفعل والتغيير، راضية كما يبدو بمصيرها. استخدم المخرج لعمله هذا أدوات وتقنيات وفرت له النجاح الكبير نسبياً، بمعايير المسرح الشبابي. فقد اتخذ مجموعة من العلامات والحركات الدالة، سواء عبر حركة الممثل القاسية، أو من خلال الإكسسوارات والإضاءة، ما جعل العرض غنياً بالجماليات المقروءة على غير مستوى. العمل المسرحي الثاني الذي كان لافتاً هو "فالنتاين"، نصه لتيسير النجار ومن إخراج خليل نصيرات، وقد حاز رضى البعض وسخط كثيرين، لكنه يظل عملاً تجريبياً ينطوي على مقدار من المغامرة. وأحرز مخرجه جائزة لجنة التحكيم الخاصة، بينما نالت ختام السيد جائزة أفضل تصميم ملابس، وذهبت جائزة التحكيم عن أفضل إضاءة إلى ماجد نور الدين، وحاز الممثل منذر رياحنة جائزة التحكيم الخاصة عن دوره في العمل. العرض الذي شاهدناه كاد يخلو من النص المنطوق، لتحل محله لغة الحركة وبضع كلمات قليلة تتعلق بالاتصال الهاتفي المقطوع بين الشخص السجين منذر رياحنة في يوم تنفيذ الحكم بالإعدام عليه، والمرأة التي يحبها. ويعوض المخرج غياب النص المنطوق باستحضار ظاهرة الغرافيتي الكتابة على الجدران المعروفة منذ أقدم العصور. ففي ظل انعدام التواصل بين الحبيبين بالوسائل الحديثة الهاتف غير المتوافرة في السجن، يلجآن إلى أقدم وسائل التعبير والاتصال، ليتم التواصل قبل الغياب الأخير. ثمة مأسوية عالية في العرض تعبر عنها حركة الممثلين، خصوصاً حركة الممثل الذي يحاول، بتفجير طاقته كلها، أن يكسب كل دقيقة من الوقت المتبقي له في الحياة. ربما كان العرض الأول متعثراً في استخدام بعض التقنيات، إلا أن رسالته بدت واضحة منذ البداية، والنهاية جاءت مفاجئة، حيث اللجوء إلى الكتابة على جدار السجن أسلوب وحيد للتواصل، وهو أسلوب لا يذكرنا فقط بطفولة الحضارة في العصور القديمة، بل يعيدنا إلى زمن طفولتنا نحن، في عصرنا هذا، حيث لقاء الفتى والفتاة لا يجد مجالاً له إلا على جدران الحارة والمدرسة. العمل الثالث الذي يستحق التوقف هو "المستأجر الجديد"، عن مسرحية ليوجين يونيسكو، لقاسم ملكاوي إعداداً وإخراجاً، بما في ذلك عناصر السينوغرافيا من ديكور وإضاءة وأزياء، وهي خصوصاً الصناديق التي تحتوي أثاث المستأجر المقبل، في اعتقادي، أهم ما في العرض. فقد بدأ العرض بالانفتاح على الشقة التي غادرها مستأجرها، وجاءت الخادمة الثرثارة والشهوانية لتنظيفها وتوضيبها من أجل الساكن الجديد، ولم تكن الحوارات القليلة بينهما ذات قيمة كبيرة، وكان تركيز المستأجر يتم على ضرورة إغلاق نافذة لا نراها فلا نعرف أهي حقيقية أم وهمية ومتخيلة. ثم بدأ حمّالان يدخلان الصناديق إلى الشقة ضمن مخطط وضعه المستأجر، وضمن حركة ذات إيقاع بطيء إلى حد الملل، ولا بد من أنه ملل مقصود، إذ سرعان ما تتسارع الحركة، وتتكوم الصناديق، وفجأة تعتم القاعة كلياً، ويظهر المشهد المفاجئ: أكوام وصفوف من الصناديق تملأ المكان وتغطي كل شيء، ولا تترك للمستأجر اختفى ولم نعد نرى سوى طرف قبعته موضع قدم. وعلى صعيد الحركة المسرحية، استطاع المخرج الشاب أن يملأ الخشبة بحركة دائبة، فنجح أحياناً في جعل الحركة ذات مغزى ودلالة، خصوصاً في توزيع الحمالين على مدخلين، ومن ثم توزيع الإضاءة في صورة متناغمة ومتناسقة، لكن الحركة كانت تسقط أحياناً في التكرار فلا تقدم سوى الملل غير المبرر. ثمة مسألة أساسية أخرى في العرض شكلت محوراً في علاقات عناصره بعضها ببعض، هي علاقة المستأجر بالمكان وبالصناديق. فبمقدار ما بدا المستأجر والمكان أنيقين، اختار المخرج أنماطاً من الصناديق الكرتون بأحجام وألوان تفتقر إلى الانسجام والتناسق والأناقة، فظهر التناقض الكبير والمفارقة المحملة بالسخرية في المشهد الختامي. وقد نجح المخرج كذلك في منح العمل صبغة لا توحي مكاناً وزماناً محددين، فأفلت من إطار الهوية الخاصة إلى عمومية جاءت لمصلحة العمل.