"صيف سام" هو فيلم سبايك لي الجديد. تدور اجواء الفيلم حول نيويورك في العام 1977، عندما سادها الذعر حين روّع مجرم اسمه ديفيد بيركوفيتز المدينة على مدى أشهر عديدة، تتوجت في ذلك الصيف بإلقاء القبض عليه في التاسع والعشرين من شهر تموز يوليو من ذلك العام. سبايك لي لا يتحدث عن ذلك المجرم، الذي سمّى نفسه "إبن سام" وادعى انه يتلقى أوامره من كلب. ولو أنه يصوره ويعود اليه من حين الى آخر كمفاصل يربط ما يجري على سطح المدينة من أحداث. ما يهم المخرج المعروف هو اظهار تأثير "إبن سام" على أبناء حي البرونكس الإيطالي - الأميركي، وكيف ان تلك الجرائم المروعة أدت الى تفجير حالات من التعصب وتوتير العلاقة بين النماذج الايطالية - الاميركية التي نراها. وهذه هي المرة الأولى في أفلام سبايك لي لا نرى فيها شخصية سوداء في دور أساسي. سبايك لي نفسه يؤدي دور مذيع تلفزيوني يقوم باستفتاء بين الأهالي حول "إبن سام". وفي لقطة مداعبة تظهر شقيقته التي ظهرت في بعض أفلامه. عدا ذلك، الفيلم من اداء شخصيات من البيض ما دفع بعض النقاد هذه المرة الى اتهام سبايك لي بالعنصرية المضادة! لم يكن مجنوناً القاتل ديفيد بيركوفيتز كان حالة هوس نفسية مريضة، لكنه لم يكن مجنوناً. كان يتسلح بمسدس من عيار 44 ويترصد ضحاياه مطلقاً النار على رؤوسهم. في البداية كان يقترب من السيارات التي يختلي فيها الرجال والنساء ويطلق رصاصاته من وراء الزجاج ما دفع بعض المحللين النفسيين الى استنتاج ساذج يقول ان ديفيد هذا لديه كره للمرأة معظم ضحاياه من النساء وللسيارات معاً لأن والدته لا بد أنجبته في سيارة! لكن أحداً لم يضحك آنذاك. بل ساد المدينة حال من الخوف. وأخذ البوليس ينصح المواطنين بالتزام بيوتهم ليلاً والتأكد من اغلاق الأبواب. وأدى ذلك الى انحسار الإقبال على المرابع الراقصة وسواها من أماكن السهر أو اللهو. في معالجته لا يلتفت سبايك الى التحليل النفسي حول دوافع القاتل. ولا يقدم قصة بوليسية تتمحور حوله. في الحقيقة الفيلم هو عمن أثر عليهم وجود ديفيد بيركوفيتز، من دون ان يعرفوا شخصيته او يتصلوا به. وكيف دفع العيش، في حمى الخوف منه، بشرائح الفيلم العادية الى ارتكاب أفعال لا تقل قسوة بكثير مما كان "إبن سام" يرتكبه. كان عمر المخرج الأفرو - اميركي سبايك لي عشرين سنة في العام 1977 وهو العام الذي أقدم فيه على إخراج أول فيلم له: شريط قصير بكاميرا "سوبر" هو "آخر تدافع في بروكلين"، كان ذلك إذن قبل تسع سنوات من انطلاقه بفيلمه الروائي الطويل الأول "لا بد لها من امتلاكه" 1986 الذي شهد نجاحاً كبيراً بين النقاد والمثقفين السينمائيين حول العالم. نيويورك في أفلام سبايك دائماً موجودة، كذلك الشرائح الاجتماعية حسب انتماءاتها العنصرية خصوصاً الايطاليون والسود. في "أفعل الشيء الصحيح" 1989 و"حمى الأدغال" 1991 كما في "كروكلين" 1994 عكس في القدر الكبير من الإهتمام والإجادة في تناوله العلاقات المعقدة بين السود والبيض في مدينة يراها دائماً حارة ويقظة. في أفلام اخرى مثل "مالكولم إكس" و"اركب الحافلة"، تحدث عن رموز العلاقة داخل المجتمع الأفرو - اميركي وتشتت المذاهب والحلول الفردية التي قد يذهب اليها البعض في محاولته فصل نفسه عن التيار السائد. في هذه الأفلام انتقد البيض والسود على حد سواء، واهتم بإظهار الخلفية الاجتماعية ضمن إطارها الجغرافي المحدد بمناطق شهيرة ومحددة من نيويورك. "صيف سام" لا يختلف في هذا الجانب من أفلامه الأخرى، وكما العنوان يتجنب الفيلم تناول القاتل ديفيد بيركوفيتز وحياته وشخصيته او أي شيء عن دوافعه، مركزاً اهتمامه بما خلفته تلك الجرائم في نيويورك من ذعر عام وفجرته من تعصب أعمى يقود البعض ضد البعض الآخر لمجرد الاختلاف في السلوك الفردي. يبدأ الفيلم بالصحافي جيمي برسلين في "نيويورك بوست" الذي كان تلقى في ذلك العام رسالة تهديد من "إبن سام"، وهو يتحدث عن نيويورك وكم يحبها ويكرهها في ذات الوقت. ومن هنا ينطلق الفيلم في فصله الأول مؤسساً بعض الشخصيات: سام يقترب من سيارة فيها شاب وفتاة مختليان ببعضهما ليلاً، ويطلق عليهما النار من خلف النافذة المغلقة. فيني جون ليفويزامو وديونا ميرا سورفينو زوجان شابان يحبان حياة الليل ونتعرف عليهما في أحد مرابع الرقص. بعد قليل يخون فيني زوجته مع امرأة أخرى، ثم يعود الى زوجته التي تدرك ما حدث، لكنها قبل ان تتفوه بشيء حين وصولهما الى شقتهما الصغيرة، يقترب فيني من موقع الجريمة ويعتقد ان القاتل أيما كان لاحظه إذ زار فيني الموقع ذاته بينما كان مع المرأة الأخرى وشاهد رجلاً ينظر اليه. علينا هنا ان نصدق ان هذا الاعتقاد أدى الى خوف فيني من أن يكون الضحية المقبلة، وهذا التصديق لن يكون صعباً، فهو سريعاً ما يبدو لنا شخصاً غير متزن تماماً. ولا سيما حين يعيش حياة لا يفرق فيها بين زوجته وعشيقاته. انه لا يستطيع ان يفعل مع زوجته ما يفعله مع الأخريات… وهذا المنوال من التفكير يسبب له متاعب شديدة مع نفسه ومع زوجته ويدفعه أكثر فأكثر الى خسارة زوجته وعمله وصديقه الحقيقي الوحيد، كما الى خسارة نفسه وقيمته الذاتية. لكن جون وعالمه هو جزء من الصورة الجماعية التي يتعامل سبايك لي معها. نتعرف سريعاً على محيطه من الأصدقاء. هناك شلة ايطالية بينها متزعم يؤمّن المخدرات لمن يريد، وشاب يقرر ذات يوم قص شعره على طريقة "البانكس" وتلوينه والنطق بلهجة انكليزية مثيراً نفور الشلة. هذا "البانكس" هو ريتشي ويقوم بدوره ممثل موهوب جديد رأيناه في فيلم ترنس مالك "الخيط الأحمر الرفيع" هو أدريان برودي. في "صيف سام" نراه يكتشف بدعة الحياة ضمن تعاليم هذا التيار الشبابي الذي ترعرع آنذاك ويقدم على حياة ماجنة. إنما مستترة منفتحة على الجنسين معاً. مثل فيني ينخرط في ركاب السائد تابعاً "الموضة" الاجتماعية. على عكسه، يعلم ما يقوم به ويتبعه كسلوك حياة ولا يجده خطيئة. فيني من ناحيته بات، مع تمادي الأحداث وازدياد موجة الجرائم، موزعاً بين التمسك بالتعاليم واتباع شهواته. قائمة المشتبهين تتأزم الأمور عندما تبدأ الشلة الإيطالية، تبعاً لتعليمات رئيس عصابة مافاوية بن غازارا، بتأليف قائمة من المشتبه بأنهم "إبن سام" وتضم هذه القائمة ريتشي. وبمساعدة فيني، الذي يعلم سر عمله الليلي في حانة "بورنو" يؤمها المنحرفون، يصلون اليه ويضربونه، الستار هنا هو الاشتباه بأنه "إبن سام". وما تحت هذا الستار هو كرههم للمختلف حتى ولو كان من البشرة ذاتها، وارتفاع حدة التعصب الأعمى بينهم. فيني خلال ذلك، يبقى المحور. ونحن نشاهد سقوطه المريع فاقداً القليل من الخصائص التي كان يحتويها انسانياً وعائلياً، متحولاً الى واشٍ لا ينفعه اكتشاف الجميع أن البوليس في تلك الليلة التي قرروا فيها "تأديب" ريتشي، كان ألقي القبض على سام وانتهى الأمر. يتيح لنا لي مشاهدة شخص بدين يترك طعامه المحتوي على نسبة كبيرة من النشويات والسكريات على طاولة المطبخ يغط عليه ذباب الصيف. الكلب الذي ادعى أنه كان يصدر له أوامره يحوله لي الى وجود فعلي. انه كلب أسود لدى الجيران ينبح دائماً كلما كان سام في بيته. وفي مرة لا يتحمل سام نباحه فيطلق عليه النار. هذا قبل ان يتحول الكلب الى حالة من الوهم الكامل. كعادته صور سبايك لي فيلمه بكاميرا وثابة وولفه بقطع حاد، لكن تحت سطح تلك الحدة ليس هناك ما يكفي من العمق الذي كان من شأنه ان يمنح الفيلم بعداً فنيا/ ضمنياً مترابطاً. ورغم كل إلمامه وجهده في توفير معالجة ساخنة لموضوع التعصب والإنحدار الأخلاقي، إلا ان الفيلم يبدو في النهاية كما لو كان لا يزال يبحث عن هويته ومعناه. في العديد من المشاهد يعمد المخرج الى أسلوبه الصريح لحد الفجاجة أحياناً في تصوير تفاصيل الحياة العاطفية لدي أبطاله. والخيط الذي يفصل بين المرغوب والمرفوض او الزائد عن الحاجة يضيع سريعاً. ومع التكرار يفقد الفيلم تصاعده الدرامي الدفين وتبلوره الداخلي. ما يبقى على الشاشة هو أشبه ب"ضربة شمس" وتذكير بأن لي يتوخى أكثر مما يحققه من نتائج في فيلمه الثاني عشر هذا.