سجلت الشرطة اللبنانية في الشهور القليلة الماضية حالات انتحار عدة في صفوف الشباب، وهي ظاهرة لم يعرفها لبنان سابقاً، خصوصاً في مرحلة عمرية تتسم بالقدرة على التحمل وبالاتجاه نحو المغامرة. فالمعروف ان للشباب اللبناني غالباً منافذ للمحافظة على الحد الأدنى من العيش واضفاء معان حتى على الفقر المدقع لا تخلو من جمالية وتفاخر. كان الانتحار في لبنان لصيقاً بترف وضجر ووحشة المعزولين الباحثين عن معنى للعيش، أي انه كان شأناً معقداً بعيداً من بساطة أهل العيش والمغامرة والحد الأدنى من الايمان. وحدثت في أعقاب الحرب و"برودة" الجروح حالات انتحار محدودة أسبابها اقتصادية كما أعلن ذلك المنتحرون قبل انجاز فعلتهم. ولا يمكن الحديث، ببساطة، عن الانتحار الذي تحرمه الشرائع جميعاً، فأن يعمد شاب في مقتبل العمر الى "انهاء" حياته يحتاج الى مجموعة من "الحوافز" أغلبها عابر ولحظي، لأنه إذا استطاع التأجيل ولو دقائق فالأرجح ان يمتنع عن فعلته هذه، وهي فعلة تتم في لحظة التقاء "الحوافز" وضغطها الى حد يعزل غريزة البقاء نفسها، لأن العقل في هذه الحال تم عزله في وقت سابق. لم يكن الشباب الذين انتحروا في لبنان خلال الشهور الماضية في عمر الانتحار المعهود عالمياً، هذا العمر تقول المتابعات في العالم انه في حدود الستين عاماً أو أكثر. وفي بريطانيا تعلو الأصوات هذه الأيام لأن معدل أعمار المنتحرين والمنتحرات انخفض الى الأربعين عاماً. وفي لبنان نجد ان المنتحرين الشباب ينتمون الى بيئات وأديان مختلفة، وكذلك الى طبقات اجتماعية متنوعة بين الغنى والتوسط والفقر. لم يترك معظمهم رسائل، ولم ير أصدقاؤهم وعارفوهم دلائل على امكانية انتحارهم. كانت مشاكلهم تبدو عمومية، من النوع الذي يشكو منه معظم الشباب اللبناني اليوم، وتدور بين حدّي الفقر الشديد وافتقاد المعنى. فهذا البلد الذي ملأته الحرب أحلاماً سياسية مدمرة، لم يعمد أحد بعد الخيبة الى محاولة رسم أحلام مغايرة، فلا الرياضة استطاعت أن تكون بديلاً ولا الاهتمام بالبيئة، وأهل الفن والأدب أغرقتهم نزعة الاستهلاك والخفة أو نزعة عظامية الى رسولية لبنانية أو عروبية، فلم يقدم الفن والأدب في لبنان مرايا ولو ضئيلة لهواجس وأحلام مكبوتة لشباب نشأوا في مجتمع مفتوح، فإذا هم يتعرضون يومياً الى ضغوط تفقدهم المعنى الذي يعتقدون فيه عقلياً ووجدانياً، كما تفقدهم الكثير من أساسيات العيش من مأكل ومشرب وملبس وأمل باستمرار الحد الأدنى من لوازم البقاء. قبل اسبوعين انتحر طالب جامعي في بيروت، وقبله بأشهر انتحر طالب آخر. وبينهما حوادث انتحار عدة لا تكفي الوقائع والدلالات لفهم أسبابها. كأن الانتحار أكثر عمقاً من مشاكل الاقتصاد والعاطفة وحتى النفس. انه، الى حد بعيد، ذروة الانفراد والوحشة. ولكن، هل تعيننا صور سريعة من حيوات شبان أقدموا على الانتحار على خوفنا من سماع أخبار كهذه، واستعاذتنا بالله منها؟ فقبل عبدالله شاهين، انتحر شاب أنجز مراحل مهمة من دراسته الجامعية، يجمع كل من يعرفه على أنه لم يسبق ان عانى من مشاكل اقتصادية. جاء الى الجامعة ونجح في جميع مراحلها. وفي الأثناء كان يملك مكتباً ويمارس مهنة. يروي أصدقاؤه ان تحولات هادئة أصابت حياته، ولم تكن التحولات عاصفة. ليست الدماثة وحدها ما يتحرق الأصدقاء على فقدانها بعد موته، انه ذلك البريق الذي كان يجعل من عينيه كتلتي تساؤل، وريبة محببة. اهتم الشاب بالسياسة، ثم عاد وضعف عن ذلك قليلاً. انشغل عن مكتبه بهموم جامعية ودراسية كانت تأخذه من سؤال الى سؤال. وهذه الهموم امتدت، كما يرجح عارفوه، الى محاولات فهم جديد لنفسه وللدائرة الأضيق في مجتمعه. لكن انتحاره جاء قاطعاً ومفارقاً. فهل هي الاجوبة التي تتناسل منها اسئلة؟ الأمر أقرب الى ضرب من التنجيم، خصوصاً ان الانتحار في لبنان كما في البلدان العربية لم يصل الى حد اعتباره ظاهرة. من سيرة الشاب الجامعي، الى الشاب عبدالله شاهين من مدينة طرابلس شمال لبنان، والذي ترك رسالة بخط يده منشورة في هذه الصفحة نقلاً عن جريدة "النهار" اللبنانية، عدد الجمعة 25/6/99 يحدث فيها عن أسباب عامة لاختياره الموت. وهي أسباب أساسها اقتصادي تطاول الجيل الجديد في لبنان... وربما في غيره.