"نحن شعوب الأممالمتحدة، لقد آلينا على انفسنا، ان ننقذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب…". بهذه الكلمات يبدأ ميثاق الأممالمتحدة. كان ذلك في سان فرانسيسكو عام 1945. وكانت الحرب التي انتهت لتوها، مسرحاً لأبشع ممارسات الدمار الشامل والشخصي. فأرادت شعوب العالم، والذعر في العيون، تجنيب الأبناء والأحفاد أنواع التمزق التي عرفتها. "لأن الحروب تولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب ان تبنى حصون السلام". بهذا القول يبدأ الميثاق التأسيسي لليونيسكو، الذي جرى التوقيع عليه، في لندن، في تشرين الثاني نوفمبر 1945. ان السلام يشاد كل يوم، وبناؤه صنيعة كل منا. لأنه موقف تصهره التربية والعلم والثقافة، التي تعطي لكل امرئ القدرة على التصرف بمقتضى وعيه. حينما كانت صواريخ "V2" تدك المملكة المتحدة، تولد لدى الوزير البريطاني باتلر اقتناع بأن التربية وحدها - ووحدها المعرفة واحترام الثقافات الأخرى، والايمان بقوة الحوار، والمشاركة في الشؤون العامة - يمكنها ان تمنع حصول المحرقة من جديد، والتمييز العرقي، وكم الأفواه. ان تفادي الحرب يتم عبر معالجة المرض من جذوره: ان الظلم والحرمان والبؤس هي مصدر الاغتراب والممارسات المتعصبة والمتطرفة. فلا بد من تقاسم أفضل للثروة لتفادي الفروق الاجتماعية الحادة. وبدلاً من "اذا أردت السلام هيئ نفسك للحرب"، أخذنا تدريجياً نستخدم عبارة "هيئ نفسك للسلم": إذا أردت السلام عليك ان تهيئه وتقويه. لا تقبل بما هو غير مقبول، استمع دائماً، وتصرف حسبما يمليه ضميرك، لا تبحث في محيطك عن الأجوبة على الأسئلة الجوهرية لأن هذه الأجوبة موجودة في قرارة نفسك. تجنب الحرب بالتنمية، بحرية التعبير، التي تجعل الحرية أكثر عدالة، عبر توزيع أفضل للموارد المختلفة. كم من مواجهة تمكنا من تفاديها! وكم كرامة تمكنا من إعادة اعتبارها والدفاع عنها - بمقتضى "التضامن الثقافي والأخلاقي"، الذي ينادي به ميثاق اليونيسكو - غير اننا لا نستطيع ان نرى ما تفاديناه ومنعنا حصوله. ان السلام غير منظور. لا يمكننا ان نرى الحياة، محفوفة بالمخاطر كانت او سعيدة ومليئة بالأمل. لا يمكننا رؤية ما تفاديناه. ولكن ليس هنالك انتصار أكبر من الذي لا يعرض على الشاشة، ولا يذاع في الراديو، ولا يكتب في الصحافة. علينا جميعاً - ووسائل الاعلام في الطليعة - ان نساهم في قول وتحقيق ما هو غير مرئي. اخذت الديموقراطية، منذ سنوات تحرز تقدماً ملحوظاً، وأخذت أصوات الشعب تسمع حيث لم يكن مسموعاً في الماضي غير الصمت. كان سلام الأمن سائداً. وبدأ اليوم بالظهور أمن السلام. لقد تم الانتصار على نظام الفصل العنصري المقيت، في جنوب افريقيا وناميبيا. ووصل وجهان افريقيان ساطعان نيلسن مانديلا وسام نوجوما الى سدة الرئاسة في بلديهما. وتم التوصل الى السلام في موزامبيق، وسلفادور، وغواتيمالا، وسيتحقق في ايرلندا الشمالية والشرق الأوسط، بفضل المثابرة والارادة الحازمة. وكذلك بفضل الرؤيا المستقبلية. ولا سيما بفضل هذه الرؤيا. لأنه، وكما قال البرت اينشتاين: "في أوقات المحنة، وحدها المخيلة أكثر جدوى من المعرفة". "ان ننقذ من ويلات الحرب". كيف؟ عبر الشروع بالتنمية المستديمة على المستوى العالمي، والتقاسم العادل. عبر مساعدة كل بلدان العالم على الحصول على المعارف اللازمة. وعبر العمل لجعل جميع المواطنين قادرين على المشاركة، أي ان يحسب حسابهم في الشؤون العامة، وليس ان تحسب فقط اصواتهم في استطلاعات الرأي والانتخابات. وتوجد التربية في وسط المثلث المتفاعل: السلام - التنمية - الديموقراطية، التربية للجميع ومدى الحياة، "ان الديموقراطية هي أفضل وسيلة لمكافحة الفقر" كتب يقول الاقتصادي اللامع الحائز على جائزة نوبل، امارتيا صن. وقد قامت بلدان عديدة خلال عقد التسعينات، لدى وعيها بضورة التغيير، ببذل جهد كبير عبر الاستثمار في المجال التربوي، معتمدة اولويات جديدة في موازناتها. مقابل ارتفاع نسبة التعليم تتراجع بشكل شبه مساو نسبة ازدياد السكان. ان التربية هي أفضل العوامل لضبط التكاثر. والايقاع الحالي بظهور 254 ألف عابر جديد لكوكبنا الأرضي في اليوم - علينا ان نتذكر! - لا بد من ان يتناقص اذا بقيت الاتجاهات الحالية على حالها. والحلقة المفرغة للنظام المالي القائم على قروض هدفها إثراء الذين يمنحونها ويجعلون مصانعهم تعمل بفضلها وتزيد فقراً الذين يحصلون عليها غير القادرين على انشاء مصانعهم واستغلال مواردهم الطبيعية، تؤدي الى نمو غير متناسب. فتتراكم الثروة من جهة، ويتراكم البؤس من جهة اخرى. انها ثروة غالباً ما تكون خفية وحزينة، لأن المرء لا يحب عادة ما لم يحلم به ويستحقه. تناسينا رويداً رويداً ويلات الحرب، لأننا مسيرون بفضل شرائع السوق والمؤشرات ذات المدى المحدود، بدلاً من السير بهدي خطوات سياسية مستوحاة من "الاعلان العالمي لحقوق الانسان". وتوجهنا الى المشاركة في مؤتمرات عالمية كبرى حول البيئة، والسكان، والتنمية الاجتماعية، ودور المرأة… لكننا لم نف بالالتزامات التي قطعناها على أنفسنا. لقد وافقت البلدان المتقدمة عام 1974، خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، على ان تخصص 7.0 في المئة من صافي نتاجها الداخلي، للبلدان الأقل نمواً. ويبقى ان تتمتع ب 3.99 في المئة. ولكنها حنثت ايضاً بوعدها هذا باستثناء بعض البلدان الشمالية. والذي يزيد الطين بلة ان النسبة المخصصة للتعاون الدولي انخفضت، منذ ثلاث أو أربع سنوات لتصل الى 2.0 في المئة من صافي النتاج الداخلي، بينما ارتفعت نسبة الانفاق العسكري بنسبة تتراوح بين ثلاثة وخمسة أضعاف في عدد من البلدان. فريضة الذاكرة، جريرة الصمت. نسينا أنواع التمزق وآلام العنف والحرب. ان الحرب هي المنحرفة ليس الشعوب. ليس الذين كنستهم المحن بعنفها. غير اننا لم نرفع صوتنا ما يكفي ليدوي صراخنا لدى قادتنا. وبدلاً من ان نعزز السلام، تركنا منطق القوة يسيطر من جديد على قوة المنطق، والوقاية، والمثابرة في الاقناع والحوار. لم ننشئ أحلافاً اقليمية للتدخل السريع، في حال وقوع كارثة، بهدف الحد من تأثيرها، واستباق، بقدر الإمكان، الحرائق المدمرة والأعاصير… لم نتعلم بعد كيف ندفع ثمن السلام، وإذا بنا ندفع من جديد ثمن الحرب. إن الثمن الباهظ للنزاع العالمي 1939 - 1945 من حياة الناس المعلم الأكثر كمالاً الذي يستحق الحماية، أدى الى تأسيس الأممالمتحدة. وانهيار النظام السوفياتي، مع جدار برلين عام 1989، جعل العالم يلمح آفاقاً جديدة للتغيير. إن الستار الحديدي كان متآكلاً: بني على أسس المساواة وترك الحرية جانباً. ونحن نشهد اليوم إفلاس نظام بني على أسس الحرية وترك جانباً المساواة، كذلك مبدأ الإخاء كما فعل النظام الآخر. وبينما أخذنا نفكر في كسب "مغانم السلام" وتعزيز منظومة الأممالمتحدة، حصل عكس ذلك: فاذا بهذه المنظومة تزداد وهناً، لينحصر دورها في عمليات حفظ السلام بعد نشوب نزاعات، وبالمساعدات الانسانية. واذا بكل الشبكة التنموية الوكالات المتخصصة بالأغذية والزراعة، والصحة، والعمل، والتربية والعلم والثقافة تواجه ب"النمو الصفري". واليونيسكو، صاحبة المهام المتعددة والرسالة الواحدة: تعزيز السلام، وجعل ثقافة السلام مكان ثقافة الحرب والعنف السائدة منذ فجر التاريخ، ترى الولاياتالمتحدة الأميركية، الأمة الأقوى في العالم، تؤجل عودتها المعلنة اليها لأسباب تتعلق بالميزانية ما يوازي بضعة ضئيلة من عشرات ملايين الدولارات… 1999: مرة أخرى يتم اللجوء الى القوة، مع استخدام الوسائل الأكثر تعقيداً. وحتى ولو في نهاية المطاف - والفضل في ذلك يعود الى الصحافيين والمراسلين - تضطر القوات الجوية الى الهبوط من أعاليها، باستثناء المناطق الصحراوية، لتحارب من بيت الى بيت ومن شجرة الى شجرة. مرة اخرى تم اللجوء الى القوة، ولكن خارج منظومة الأممالمتحدة هذه المرة، الأمر الذي يخلق سابقة خطيرة. واذا كان مجلس الأمن في تركيبه الحالي لا يمكنه ان يتحرك بالسرعة المطلوبة، فليس لنا الا ان نبدله ونغير خصائصه. ولكن التخلي عن الأممالمتحدة يعادل تشجيع حالة التهافت التي تصيب الديموقراطية على المستوى القومي في حل المشاكل القومية، وتشجيع نوع من سلطة الأقلية على الصعيد العالمي في حل المشاكل الدولية. إن الأممالمتحدة هي البنية الديموقراطية الدولية الوحيدة المستقرة والقادرة على اجتثاث العنف والإرهاب من الجذور، السببين المولدين، في كثير من الأحيان، لمشاعر التعصب القومي والديني والأيديولوجي، القادرة ان تقول ان الأسرة الدولية لن تعترف بالذين يصلون الى السلطة بواسطة سفك الدماء وليس عبر صناديق الاقتراع، وان ترسل قواتها للتدخل فوراً ومن دون تأخير لدى حصول فراغ في الحكم وانتهاك واسع ومفضوح لحقوق الانسان. وبذلك يعرف الجميع الى أين ستؤدي خطواتهم، ونتفادى حالة الضياع الكبرى التي ترافق كل اندلاع نزاع، لأن الحقيقة هي الضحية الأولى في كل حرب. 1999: علينا ان نفكر ونعمل كما حصل عام 1945. مع فجر قرن جديد وألف جديد، علينا ان نعزز، عملاً بمناقب البدايات، الاتحاد بين البلدان لاستباق العنف والحرب. ولا بد لهذا الاتحاد من ان يقوم على أربعة عقود جديدة: اجتماعية، وطبيعية، وثقافية، وأخلاقية. علينا ان نفرض ونحترم قواعد سلوكية - حول تحرك رؤوس الأموال، والطاقة والمياه، والأسلحة… على المستوى العالمي. كما لا بد من مزيد من الاستثمار في هذه المعجزة الفريدة، التي هي الكائن البشري. ان الثمن لذلك معقول جداً اذا تذكرنا ان الاستثمار في التسلح تجاوز السنة الماضية 800 بليون دولار. فريضة الذاكرة. اذكر اليوم بتأثر خاص، اللحظة التي قلنا بها في "اوشويتز"، وفي جزيرة "غوريه" - الموقعين المعلنين جزءاً من تراث الانسانية من قبل اليونيسكو: "لن نسمح بذلك أبداً بعد اليوم"، تلك اللحظة التي شاهدت فيها "روبن ايسلاند"، من "كاب تاون"، صرخت في نفسي: "لن نسمح أبداً". وعندما افتتحنا في كيغالي "بيت الصحافة"، وفي بجمبرة "بيت السلام". وفي الصومال… رددنا "لن نسمح بذلك أبداً بعد اليوم". ثم في ساراييفو وموستار حيث بدأنا بناء الجسور، "لن نسمح أبداً بعد اليوم". لا يفوت الأوان على السلام. من الأفضل تحقيقه اليوم قبل غد. فليتوقف القتال، تعالوا نضع في تشغيل آلة السلام الكمية نفسها من المهارة التي وضعناها في تشغيل آلة الحرب حتى اليوم. فلا بد من اعلان الحقيقة وانتصار العدالة. فليعد بحماية الأممالمتحدة جميع الذين تهجروا من بيوتهم وأرضهم، الى إقليم كوسوفو متمتعاً بحكم ذاتي، ومتعدد الأعراق والأديان. ان الجراح تفتح بساعات وتأخذ وقتاً طويلاً لتلتئم. فعلينا ان نبدأ عملنا بأسرع وقت ممكن. فلنسلك طريقاً آخر بأسرع وقت، كاتبين تاريخاً مختلفاً عن هذا الذي لا نستطيع أكثر من وصف وقائعه. وبذلك نوجه أفضل تحية الى اولادنا وأحفادنا، الذين وعدناهم عام 1945 ان نجنبهم ويلات الحرب. انها فريضة الذاكرة. * المدير العام لليونيسكو.