"أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    أنشيلوتي: كورتوا سيشارك أساسيا مع ريال مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب يصف محاكمته الجنائية في نيويورك بأنها «غير منصفة للغاية»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    «الربيعة» يدعو إلى تعزيز المسؤولية الدولية لإزالة الألغام حول العالم    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    شولتس: إصابات "بالغة" إثر هجوم "مروع" بالسكين في ألمانيا    أمر ملكي بالتمديد للدكتور السجان مديراً عاماً لمعهد الإدارة العامة لمدة 4 سنوات    مفاوضات غزة «متعثرة».. خلافات بين إسرائيل وحماس حول وقف الحرب    كذب مزاعم الحوثيين ..مسؤول أمريكي: لا صحة لاستهداف حاملة الطائرات «آيزنهاور»    الذهب يستقر قبل بيانات التضخم الأمريكية    الهلال يبحث عن الثلاثية على حساب النصر    مورينيو يختار فريقه الجديد    حجاج مبادرة "طريق مكة" بمطار سوكارنو هاتا الدولي بجاكرتا    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    فاتسكه: دورتموند قادر على تحقيق شيء استثنائي أمام الريال    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    فيصل بن فرحان يلتقي وزير الخارجية الصيني و وزير الخارجية العراق    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    إسلامية جازان تقيم ٦١٠ مناشط وبرنامج دعوية خلال أيام الحج    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    البنك الأهلي واتحاد «القدم» يجددان الرعاية الرسمية للكرة السعودية    الغامدي يكشف ل«عكاظ» أسرار تفوق الهلال والنصر    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    جدة تتزين لأغلى الكؤوس    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    المعنى في «بطن» الكاتب !    كيف نحقق السعادة ؟    العِلْمُ ينقض مُسلّمات    الحوكمة والنزاهة.. أسلوب حياة    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    عبدالعزيز بن سعود يطلع على عدد من المبادرات التنموية التي تشرف على تنفيذها إمارة عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة تبوك    تكريم الفائزين بجائزة الباحة للإبداع والتميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على خالد المبارك . السودانيون اليساريون خسروا "معركة" فهم الأحداث الجارية
نشر في الحياة يوم 10 - 05 - 1999

خالد المبارك من كبار الأكاديميين المهتمين بصناعة الرأي العام السوداني من منطلق يساري قابل للتكيف حسب الظروف. وهذا ما يفهم من مقال نشر له في "الحياة"، عدد 23 آذار مارس 1999 بعنوان: "هل خسر السودانيون الشماليون معركة "جماعات الضغط" في اميركا؟". وفي هذا المقال ينعى الكاتب حظ بعض المثقفين الشماليين الذين خسروا هذه المعركة. ويبخس حظ من كسبوها بتهمة "التبرؤ من الوشائج العربية" والبقية تأتي. وتفسيره لما حدث هو ان الدنيا حظوظ. لهذا فهو يستهل مقاله ويختتمه بالمثل "السوداني" الذي يقول: "الدنيا دولاب دوار، يوم في العالي ويوم في الواطي". وحسب علمي فإن هذا المثل مصري وليس سودانياً ولكن لا بأس من خلط الأمثال، طالما انه يقدم دليلاً على الخلط العام في فهم الأحداث الجارية.
وبما انني من المشمولين بتهمة التبرؤ المزعوم، فانه يحق لي ان ارد على الكاتب بالموضوعية التي يقتضيها الموقف. غير ان هذا الرد لن يكون مفيداً الا في سياق خلفية من الأحداث تتضمن ما هو شخصي وما هو موضوعي. فالغاية هنا هي التصدي لضرب من التفكير يقوم على "نشر أنصاف الحقائق والمعلومات المحرفة عن السودان" بغية بذر بذور الشقاق بين الشمال "العربي" والجنوب "الزنجي"، تطبيقاً لاستراتيجية "فرق تسُد". وهناك ما يدل على ان إلصاق مثل هذه التهمة بالمثقفين الشماليين المنحازين الى الجانب الافريقي هو مقدمة لنقل آلة الحرب الى الشمال "العربي" بعد ان صار يشكل حلقة الوصل المفقودة بين معسكر الختمية في اقصى الشمال وحركة جون قرنق في اقصى الجنوب. وتلافياً لهذا "الخطر" أخذت بعض الجهات التي تتوجس من أي تغيير حقيقي تعمل بدأب على ايجاد تقارب بين نظام الترابيين وبعض شرائح المعارضة الشمالية على أساس "الشريعة العلمانية" التي صارت مقبولة للطرفين. وكل من يعارض هذا "التوجه الحضاري" الجديد يمكن ان يرمى بجريرة التبرؤ من الوشائج العربية بتأثير من الغرب. ومن ثم ينشأ السؤال عن هوية القوى التي ألصقت بها هذه التهمة ودورها المرتقب في لمّ الشمل الوطني من اجل انقاذ البلاد من الانقاذ. فهل هي فعلاً صنيعة للغرب. مثلما ان البعض صنيعة للشرق؟
وقبل الدخول في لُبّ الموضوع احب ان اقول انني اعرف الكاتب بصورة لا بأس بها. وكانت صلتي به على ما يرام حتى مفترق الطرق: وهو قيام نظام النميري العسكري في عام 1969 وانقسام المثقفين الشماليين حوله بين مؤيد ومعارض. وكان السيد خالد ضمن الفئة التي بايعت النظام المايوي من منطلق يساري يبرر استخدام القوة كوسيلة للسلطة. وكنت انا وكثيرون غيري في عداد المعارضين من منظور ديموقراطي شعبي يدعو الى استرداد الديموقراطية بوصفها وسيلة لتمكين الشعب من صنع مصيره بنفسه. ولا يزال هذا هو موقف القوى الحديثة، ولئن تأخر نشره على الملأ منذ أمد طويل لأسباب سوف يجري بيانها في سياق آخر. وبطبيعة الحال فإن هذا المنظور الديموقراطي الشعبي يتعارض وطبيعة النظم العسكرية التي تقوم على الاستبداد الشرقي واستراتيجية "فرق تسُد". وهنا تكمن بعض الاسباب الموضوعية للاختلاف مع السيد خالد وبعض المثقفين الشماليين الذين باركوا نظام النميري العسكري ولم يتبرأوا من وشائج هذه التجربة حتى الآن.
وربما لا يكون خطر في بال الكاتب ان التهمة التي ألصقها بنا هي سلاح ذو حدين. وفحواها ان المثقفين الجنوبيين بهذا التعميم كسبوا معركة صناعة الرأي العام السياسي في اروقة الكونغرس الاميركي. وكان الأولى بهذا النجاح نظراؤهم الشماليون لما لهم من باع طويل في هذا المضمار. ومن ثمار هذا الانتصار استقطاب الجنوبيين لبعض المثقفين الشماليين بطرق ملتوية. فهو يقول: "ان الجنوبيين بذلوا محاولات جادة وأحرزوا نجاحاً ملموساً" في اربعة مجالات منها انهم "اولاً: استخدموا عن طريق مؤيديهم الترغيب لاجبار بعض المثقفين الشماليين المقيمين في الولايات المتحدة على التبرؤ من الوشائج العربية الخطوة التالية ان يقول الشمالي: لا شأن لنا بالصراع الفلسطيني او مصير القدس". ومما يلاحظ هنا ان الترغيب ليس من وسائل الاجبار، اللهم الا اذا قبلنا مبدأ خلط الأمر. ثم انه حتى اذا سلمنا بوجود شمالي واحد بلغ به التبرم حد التبرؤ، فإن هذا سلوك شخصي لا صلة له بالأسباب الموضوعية التي تجعل معظم المثقفين السودانيين يختلفون مع الاستاذ خالد في الرأي. وهذا الاختلاف قديم وسببه مقيم. وما كنا سنخوض فيه لولا ان "حليمة عادت الى قديمها". كما نقول في السودان.
ولأسباب دعائية واضحة يحصر الكاتب هذه الفئة من "المتبرئين" في اميركا الشمالية، ويختزل قضيتها في "تقليعة" التبرؤ من وشائج عربية هو اول من تبرأ منها، ويضفي على نشاط بعض المغتربين الجنوبيين حجماً غير واقعي ولا صلة له بموقف الشماليين المعنيين. فالحاصل ان الاخوة الجنوبيين، شأنهم في ذلك شأن غيرهم، هم من المتأثرين بعملية صناعة الرأي العام السياسي في الدولة المضيفة. ولو صح ان لهم دوراً في استصدار التشريعات ذات الصلة بالجنوب فهو يقل كثيراً عن دور نظرائهم المتأثرين بالترابيين في ما يتعلق باستصدار "الاجراءات الاشتراعية" ذات الصلة بالسودان ككل، علماً بأن الجميع ضيوف على النظام! وهذا الدور الهامشي للمغتربين الجنوبيين هو ما يؤكده الكاتب نفسه، حيث يقول ان عملية الضغط السياسي لأغراض تشريعية في اميركا تقوم بها مؤسسات مسيحية تضم "اكثر من ستين منظمة أفلحت في تقديم عشرات نعم عشرات التشريعات المتعلقة بجنوب السودان".
والواقع ان المثقفين الشماليين الذين ينتمي اليهم الكاتب هم الذين سعوا للتأثير على "جماعات الضغط" في اميركا عن طريق نظرائهم الجنوبيين. وكان حاديهم آنذاك هو حض الكونغرس على مساعدتهم في استرداد بعض المكاسب التي فقدوها في اواخر عهد النميري. وحينما فشل هذا المسعى، بفضل نشاط الفئة "المتبرئة" تحت الأرض، أقبل بعضهم على بعض يتلاومون. ويبدو ان التلاوم بلغ حد السعي الحثيث لحمل جون قرنق على التخلي عن القضية والدخول في مصالحة مع نظام الانقاذ بهدف توجيه آلة الحرب ضد الشمال "العربي"، بما في ذلك الخمية هذه المرة لأسباب لها صلة بديناميات التقدم الى الخلف. وهذا هو سر الحرص المشبوه على انقاذ نظام الانقاذ من قوى البديل الشعبي الديموقراطي في الشمال باسم السلام.
والمقصود بالعرب في شمال السودان هو "قبائل" العركيين عموماً، وبالتحديد العبداللاب والبقارة في اواسط البلاد وبقية المحس في اقصى الشمال. وهؤلاء هم سلالة "عرب" قحطان الافريقيين، اصحاب اللسان العربي والوجدان الافريقي في الماضي السحيق لجنوب الجزيرة العربية بوصفها جزءاً من افريقيا الكبرى. وحينما بدأ المد الآسيو - أوروبي ضد العالم الافريقي القديم، اخذت افواج من "العرب" الافريقيين تعود الى افريقيا الأم من طريق برزخ السويس وباب المندب وتتبنى اللغة النوبية المتفوقة بوصفها لغة بناة حضارة الأهرام. وبلغ المد البربري قمته في الانقلاب الفرعوني على حضارة الأهرام الافريقية قرب نهاية الألف الثالث قبل الميلاد. وهو ما افضى تدريجياً الى احتلال العرب المستعربة مصر في منتصف القرن السابع الميلادي. وبعد ذلك بحوالى تسعمئة سنة جرى تعريب السودان على يدي مؤسسي دولة الفونج النوبيين 1504 - 1821. وبذلك صارت النوبة المستعربة هي "أفضل العرب وأفضل الأفارقة معاً"، كما قال احد المؤرخين، وبعبارة اخرى، عنصر الوئام الأصيل بين العالمين العربي والإفريقي.
لكن وشائج هذا الوئام تتعرض الآن لتهديد خطير من جانب النظام الراهن وبعض العناصر المايوية "التقدمية" التي تلعب على الحبلين: فهنالك فئة واصلت تحريض جون قرنق ضد الشمال "العربي" بعد ان سرقت راية القوى الحديثة صاحبة الاسم، واخرى باشرت مهمة تهيئة الأجواء لتوجيه آلة الحرب ضد اهل البلد الاصليين في الشمال، بما في ذلك الختمية المستبعدين من صفقة السلام المقبلة. وهو ما يقتضي، في جملة امور، ترغيب الصادق "المهدي" في العودة الى البلاد للقيام بدور الظهير الأيسر للترابي، مثلما فعل في عام 1977 حينما قام بدور الظهير الأيمن للنميري. والمشكلة هي انه لم يعد يوجد في السودان من يصدق الصادق. لذلك ليس من المستبعد ان تكون دوائر التبعية التي يدور في فلكها قامت باستنفار طاقم من المصدقين الشماليين للقيام بمهمة تشجيع "زعيم الأنصار" على ان يرضى من الغنيمة بالاياب. وأول الغيث رذاذ كما يقولون. وهو رمى المعارضين المنحازين للجانب الافريقي بتهمة التبرؤ من الوشائج العربية على طريقة "رمتني بدائها وانسلت". وهذه مسألة يمكن فهمها على خير وجه في سياق التجربة المايوية التي لا يحب الكاتب ان يخوض فيها صراحة.
كان قيام نظام النميري بحق مفترق الطرق في مسيرة المثقفين السودانيين بعد ان انقسموا الى مواكبين ومعارضين، وتبين ان هذا صراع قديم سرعان ما تحول الى مجابهة خطيرة لها ابعاد عالمية لا يمكن تفسيرها بنظرية التقدم بالمعنى المفهوم. واتضح كذلك ان الجهات الضالعة في هذه المجابهة حريصة على ان تحيطها بسياج سميك من الكتمان، لأسباب جد عميقة. ومع ذلك كنا في البداية نخوض في ظاهرة "سقوط اعوام مايو" على اساس مسلمات لا تفسر الواقع المحلي الا من منظور "التقدم الى الخلف". ومن ذلك انه حينما "تطور" سلوك المواكبين من تبرير ممارسات "اشتراكية سرجي مرجي" الى تسويق همجيات منسوبة الى "الشريعة الاسلامية" التي فرضها النظام عام 1983، وجد البعض ان من المناسب ان يطلق عليهم لفظة "الأخوان الشيوعيين". وهي لفظة دقيقة لكنها لا تفسر هذه الظاهرة. ثم سكتت جهيزة عن الكلام المباح حينما "تدهور" هذا السلوك من التبرير الى التدبير: اي الى تدبير المؤامرات "التقدمية" التي ترمي الى ابادة "عرب" شمال السودان عن بكرة ابيهم. وبالطبع يستطيع الكاتب ان ينكر وجود اي مؤامرة من هذا القبيل او على الأقل دوره فيها. ومن حسن الطالع ان حرية النكران متاحة.
من المعروف ان الرعيل المايوي الأول كان يتألف من خليط عجيب من دعاة القومية العربية الناصريون في الركاب والبعثيون على الأبواب، وطائفة متنوعة من المواكبين اليساريين، وزعماء حزب الأمة جناح الصادق "المهدي"، بالاضافة الى اشتات من المهنيين غير المذهبيين. وفي ما بعد انضم الى هذا الركب حشد كبير من "الاخوان المسيحيين" بقيادة جوزيف لاقو بعد ان دخلت اتفاقية أديس ابابا للسلام حيز النفاذ في عام 1973. وحتى عام 1977، وهو عام "المصالحة الوطنية" بين الصادق والنميري، كان رموز هذا الرهط العلماني هم المسيطرون على المواقع الأساسية في جهاز الدولة المايوية. لكن هذه الصورة تغيرت بشكل درامي بعد ان انضم الى هذا الركب معشر الترابيين المعروفين بالولع بمواقع السلطة والمال. وهكذا نشب صراع مكتوم حول اقتسام الغنيمة بين دعاة التقدم الى الخلف، من ناحية، ودعاة التخلف باسم الاسلام، من ناحية اخرى. ومن المعروف ايضاً ان هذا الصراع انتهى بانتصار "الاسلاميين" على "التقدميين"، وان وقع هذا الانتصار على الاخيرين لم يكن حلواً كالعسل. غير ان استرداد المكاسب التي فقدوها لم يكن بالامكان الا بتدبير ما يمكن ان يسمى "مؤامرة توافق المصالح العجيب". فما هي ملابساتها المحلية؟
مما يذكر في هذا الصدد ان العقول المدبرة لانقلاب مايو، بما فيها الصادق "المهدي"، هي التي بررت ضرب "عرب" الشمال، ذات اليمين اولاً الإمام الهادي المهدي وأنصاره، 1970 وذات اليسار ثانياً عبدالخالق محجوب ورفاقه، 1971، وان رأس السوط لحق بعض الأفراد من جماعة الاخوان المسلمين فكانوا في عداد الهالكين مع الإمام الهادي وبعض انصاره في الجزيرة أبا عام 1970. ولهذا انحسرت دائرة نفوذ هذه الفئة من اليساريين المواكبين و"المهديين" المتآمرين في الشمال بشكل عام. وتطور الوضع الى ما يشبه العزلة المفضية الى الشكوك والأوهام والهواجس ازاء كل ما يبدو وكأنه هبة شعبية ديموقراطية على غرار ثورة تشرين الاول اكتوبر 1964. وهذه مخاوف كانت قابلة للتضخيم تبعاً لسوء فعال المتربصين ومدى تأثير الناشط المستهدف من انصار البديل الديموقراطي الشعبي. ولما كان هذا هو ما ينطبق على شخص بصفة خاصة، فقد وجدت نفسي هدفاً للمايويين داخل البلاد وخارجها. وزاد التربص شراسة في الخارج بعد ان ظهرت القوى الحديثة الى "حيز الوجود" عام 1979، وتبين ان هدفها الأساسي هو التحرير. بمعنى استرداد السيادة الوطنية والنظام الديموقراطي على اساس تحالف استراتيجي بين المهديين الحقيقيين واليسار الديموقراطي. ولأسباب سيرد بيانها في مجال آخر، وجدت نفسي بمثابة المتحدث الرسمي باسم هذه القوى "تحت الأرض". وعندئذ تضخمت ازائي مخاوف المايويين بحيث صاروا يرون في شخصي ملك الموت الديموقراطي الشعبي! وهي حالة لم تكن تجدي معها المطمئنات حتى مع اقرب المقربين.
وحينما اشتدت عزلة المايويين العلمانيين قرب نهاية عهد النميري، تلفتوا ذات اليسار وذات اليمين فلم يجدوا لهم من معين سوى الاخوة الجنوبيين الذين تعلموا منهم مفاهيم وممارسات "اشتراكية سرجي مرجي"، من امثال العقيد جون قرنق وبعض القادة الجنوبيين الذين عرفتهم ايام الدراسة في جامعة الخرطوم. ومن المعروف ان "الاخوان المسيحيين" ظلوا على الدوام يحظون بدعم المؤسسات "المسيحية" في العالم الغربي، مثلما ان "اخوان الشيوعيين" ظلوا على الدوام يحظون بدعم المؤسسات "التقدمية" في العالم العربي. وحتى الآن لا يوجد تفسير معقول لتحريم التبعية للغرب وتحليل التبعية للشرق سوى حاجة بعض الفئات الإرتزاقية المحلية لتعويض ما يعوزها من سند شعبي على الصعيد المحلي بدعم خارجي من الشرق العربي.
وما حدث بعد ذلك يمكن فهمه في ضوء خاتمة الصراع الذي دار بين دعاة التقدم الى الخلف ودعاة التخلف باسم الاسلام وانتهى بانتصار الاخيرين. وعندئذٍ وجد بعض المثقفين الشماليين الذين خسروا الجولة ضد الترابيين في اواخر عهد النميري طريقهم الى المؤسسات المسيحية في الغرب في سياق السعي المشترك مع نظرائهم الجنوبيين ضد العدو المشترك في الشمال "العربي". وهذا هو السر في حصول الاخوة الجنوبيين على فيض من "أنصاف الحقائق والمعلومات المحرفة عن السودان"، بطريقة "كلم منصور دينق وما فهم دينق الكلام، وكلم دينق كننغهام، وتفهم كننغهام الكلام". وهاك يا تدبير، وهاك يا تنصير، وهاك يا تمصير! والآن وقد قام معشر الجنوبيين بتكثيق نشر هذه المعلومات المحرفة على المؤسسات المسيحية في العالم الغربي، فمن الواضح انهم انما فعلوا ذلك من قبيل التضامن مع نظرائهم الشماليين. واذا بدا ان الاخيرين قد خسروا هذه المعركة، فذلك لأن الكونية لافتة!
فلا غرابة في ان الكاتب انضم الى زمرة المصدقين لزعماء حزب الأمة. والهدف "الأسمى" لهذه الفئة هو جرّ جون قرنق الى فخ التصالح مع النظام تحت إمرة الصادق على اساس "الشريعة العلمانية" التي طبقوها معاً في بداية عهد النميري. وهذا ما يمكن ان يستشف بوضوح من مواقف الكاتب وهو يعزف السيمفونية المفضلة للترابيين: فهو يقايض قضية تحرير بلاد النوبة بقضية القدس، هرباً من القضايا المصيرية التي تنطوي عليها المجابهة الحالية! ويتهم بعض المثقفين الجنوبيين بنشر الأكاذيب التي هي من تأليف الشماليين المايويين، بينما يتغاضى عن دور كبار الناشرين من امثال البروفسور العربي الاميركي وليد فارس الذي رأى ان يحتمي ببحث أكاديمي لطالب جنوبي مغمور، ويصف تطبيق نظام الترابيين لسياسات صندوق النقد الدولي بأنه من أذكى المناورات، بينما يتعامى عن الدوافع العنصرية لهذا التطبيق.
وبصرف النظر عن صحة او كذب الاخبار المتداولة عن احتمالات عودة الصادق "المهدي" الى البلاد، فانه عائد لا محالة لحظة لمّ الشمل الوطني من اجل استرداد السيادة الوطنية والنظام الديموقراطي. فهو لا يملك الا القيام بدور الظهير الأيسر للحسيب النسيب، سرك سيد الأحزاب الثلاثة: الجبهة والمؤتمر والأمة.
ويختتم الكاتب مقاله بسلاح ذي حدين وهو لا يدري انه اشد فتكاً بعدو نواقصه في غيره: إذ يبدو ان الكاتب نسي انه هو ايضا من المثقفين الشماليين المقيمين في المملكة المتحدة بدل الولايات المتحدة. وهنالك ما يدعو للاعتقاد بأنه هو ايضا تعرض للتغريب لإجباره "على البترؤ من الوشائج الافريقية بدل العربية. الخطوة التالية ان يقول الشمالي: لا شأن لنا بالصراع الافريقي بدل العربي او مصير النوبة بدل القدس". وهو يقول ان "المحزن بحق هو ان يجهل الكثيرون في الولايات المتحدة الفرق بين حكومة السودان ذات المواقف السياسية المتشنجة في عدائها للغرب وسعيها للقمع في الجنوب وبين التيارات الشمالية التي تمثل الوجه المشرق المتسامح للثقافة العربية الإسلامية في السودان". وخير وسيلة لشنق الكاتب هي الحبال التي جاء بها. وعلى سبيل الشنق تقول له ان "المحزن بحق هو ان يجهل الكثيرون في المملكة المتحدة الفرق بين فئات السودان الإرتزاقية ذات المواقف السياسية المتشنجة في عدائها للغرب وسعيها للقمع في الجنوب وبين التيارات الشمالية التي تمثل الوجه المشرق المتسامح للثقافة العربية الاسلامية في السودان". وهي نفس التيارات التي وجد الكاتب وبعض المثقفين الشماليين ان من الضروري التبرؤ من الوشائح التي تربطهم بها، حرصاً على الوشائج العربية!
حقاً، ان الدنيا دولاب دوّار لعين.
* كاتب سوداني مقيم في الولايات المتحدة الاميركية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.