يتصور معظم الناس أن الحب مسألة في متناول اليد. إن الإنسان العادي يستطيع أن يمشي ويتكلم ويأكل، ويمكنه أن يحب بالسهولة نفسها التي يتكلم بها .. وهذا غير صحيح.. غير صحيح أيضاً أن يربط المجتمع بين الحب، والتعبير عنه بالكلام، وربما يكون هناك تعبير عن الحب، بينما حقيقة النفس تخلو من الحب. نحن نشاهد في السينما والمسرح مواقف تلتهب بالمشاعر، مواقف يبكي النظارة من فرط اقتناعهم بها.. لو حضرنا بروفات هذه المشاهد فسوف نلاحظ أن الممثلة التي أبكت الجمهور منذ دقائق وبكت أمام الكاميرات، سنلاحظ أنها صارت مشغولة بشيء آخر تماماً.. إنها تقول مثلا: أنا جائعة.. أو أن حذائي اللعين لا يريح قدمي، أو تقول ورائي تلفون مهم نسيت أن أطلبه.. ما الذي كان يحدث أثناء التصوير إذن.. إنه التمثيل.. إنه القدرة على اقناع المتفرج بأن ما يحدث قد حدث.. وأحياناً يبكي الممثل بدموع زائفة، ولكنها متقنة الى الحد الذي يحرك في الجمهور دموعه الحقيقية. وهذا من غرائب الحياة والفن، أن يولد الصدق من الزيف، وأن يولد التأثر الحقيقي من الخديعة.. المشكلة أن كثيراً من الناس يملكون مواهب تمثيلية، ولكنهم لا يشتغلون على مسرح الفن وإنما يمارسون هوايتهم على مسرح الحياة.. وهنا يختلط الحب بالكذب، وتتحول الحقيقة الى تمثيل، ويتحول التمثيل الى حقيقة، ويختلط الحابل بالنابل ويضيع الحب في شربة ماء كما يقولون. هناك قيمة إذا ضاعت، استحال بعد ضياعها أن يولد الحب الحقيقي، هذه القيمة هي الصدق. الصدق في التعبير عن المشاعر. إن الناس تخلط أحياناً بين الحب، وكثير من الأشياء الأخرى، إن الناس تسمى الإعجاب حباً، والإعجاب قد يدوم خلال المقابلة، وربما ضاع بعدها، وأحياناً نسمي الرغبة حباً، والمسافة بعيدة بين الرغبة والحب، وأحياناً نسمي الاقتناء حباً، ونسمي الملكية حباً، وتمتليء الحياة بكلمة الحب.. بينما ضيف الشرف غائب عن الحفل. الصدق هو الطريق المؤدي الى الحب.. وليس هناك طريق غيره، ويمكن القول إن الطريق المطروح دونه هو طريق العذاب. ............... يتألم الإنسان حين تنهار قصة حب كان يعيشها، وتختلف ألوان الألم باختلاف نوعية الإنسان وردود فعله على ما حدث. لو كان ينتمي لفصيلة الطاووس فإن كبرياءه ينجرح، ويدهشه أن يرفضه أحد أو يخونه أحد.. رغم أنه طاووس جميل.. ولو كان ينتمي لفصيلة الحمير فسوف يقول لنفسه: - بعد كل ما تحملته من أجلها أو أجله تعاملني هكذا. وأقسى أنواع الألم أن يحس الإنسان بعد قصة حب أنه وضع حبه في غير موضعه هنالك تنبعث من أعماق النفس آلام إنسانية تشبه آلام الجحيم. ومأساة النوع الإنساني أنه لم يعرف من طب البدن سوى النزر القليل.. وهو بطب النفس أجهل.. وجراح النفس تخلع على الحياة تعاسة من لون غامض ومرير.. وهو لون ينتشر في المناخ العام، فإذا الناس تنكر الحب وتعيش على الكراهية.. والويل لمجتمع هذا حظه من الحب. ................. ما هو الحب؟ هل هو عملة أحد وجوهها هو المتعة ووجهها الثاني هو العذاب؟ إن الحب يولد أساساً من الماء، ولكنه لا بد أن يدخل النار ليستحم.. والنار عذاب والماء أيضاً عذاب.. والعذاب عند الأغلبية شيء مقيت، ولكنه عند الأقلية من العارفين مشتق من العذوبة.. "يسمى عذاباً من عذوبة لفظه" وهذا العذاب أو هذه العذوبة إنما يرمزان الى التجربة التي ينصهر فيها معدن الإنسان في الحب.. وفي هذه النار.. يموت الإنسان ثم يولد من جديد على صورة المحبوب. وفي البشر من يلقي نفسه في البحر إذا أحب، وفيهم من يدخل النار إذا أحب، وفيهم من يتنهد فيحترق الهواء من وجده، ولكن النتيجة واحدة رغم اختلاف الطرق والوسائل. وهذه النتيجة أن الإنسان يولد بعد تجربة الحب مخلوقاً آخر. وآية صدق الحب أن نولد من جديد.. هذا هو المعيار الدال على حقيقة الحب وصدق صاحبه، أن يحتمل عذاب الموت وعذاب الحياة في هذا الموت والميلاد الجديدين هل تسألني عن العذاب هنا.. أن المرء لا يستطيع أن يستخرج كنزاً مدفوناً بغير أن يحفر الأرض ويجرح اديمها بالمعول والفأس.. إن كل ضربة ألم هي خطوة نحو الكنز..