أمير الرياض يؤدي الصلاة على منصور بن بدر بن سعود    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    وفاة الأمير منصور بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود    أرباح شركات التأمين تقفز %1211 في 2023    تحت رعاية خادم الحرمين.. البنك الإسلامي للتنمية يحتفل باليوبيل الذهبي    الرياض.. عاصمة الدبلوماسية العالمية    بمشاركة جهات رسمية واجتماعية.. حملات تشجير وتنظيف الشواطيء    492 ألف برميل وفورات كفاءة الطاقة    «زراعة القصيم» تطلق أسبوع البيئة الخامس «تعرف بيئتك».. اليوم    الرياض.. عاصمة القمم ومَجْمَع الدبلوماسية العالمية    «هندوراس»: إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول    "عصابات طائرة " تهاجم البريطانيين    كائن فضائي بمنزل أسرة أمريكية    موعد مباراة النصر القادمة بعد الفوز على الخليج    النصر يضمن المشاركة في أبطال آسيا 2025    القيادة تهنئ رؤساء تنزانيا وجنوب أفريقيا وسيراليون وتوغو    إحالة الشكاوى الكيدية لأصحاب المركبات المتضررة للقضاء    القتل ل «الظفيري».. خان الوطن واستباح الدم والعرض    طابة .. قرية تاريخية على فوهة بركان    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية.. استمرار الجسر الإغاثي السعودي إلى غزة    أمير الرياض يوجه بسرعة الرفع بنتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    وزير الإعلام ووزير العمل الأرمني يبحثان أوجه التعاون في المجالات الإعلامية    فريق طبي سعودي يتفوق عالمياً في مسار السرطان    برعاية الملك.. وزير التعليم يفتتح مؤتمر «دور الجامعات في تعزيز الانتماء والتعايش»    العرض الإخباري التلفزيوني    وادي الفن    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    مؤتمر دولي للطب المخبري في جدة    أخصائيان يكشفان ل«عكاظ».. عادات تؤدي لاضطراب النوم    4 مخاطر لاستعمال الأكياس البلاستيكية    وصمة عار حضارية    استقلال دولة فلسطين.. وعضويتها بالأمم المتحدة !    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    الأرصاد تنذر مخالفي النظام ولوائحه    التشهير بالمتحرشين والمتحرشات    (911) يتلقى 30 مليون مكالمة عام 2023    تجربة سعودية نوعية    وزير الصناعة الإيطالي: إيطاليا تعتزم استثمار نحو 10 مليارات يورو في الرقائق الإلكترونية    الأخضر 18 يخسر مواجهة تركيا بركلات الترجيح    الهلال.. ماذا بعد آسيا؟    انطلاق بطولة الروبوت العربية    تتويج طائرة الهلال في جدة اليوم.. وهبوط الهداية والوحدة    في الشباك    الاتحاد يعاود تدريباته استعداداً لمواجهة الهلال في نصف النهائي بكأس الملك    64% شراء السلع والمنتجات عبر الإنترنت    السجن لمسعف في قضية موت رجل أسود في الولايات المتحدة    ألمانيا: «استراتيجية صامتة» للبحث عن طفل توحدي مفقود    واشنطن: إرجاء قرار حظر سجائر المنثول    المسلسل    البنيان: الجامعات تتصدى للتوجهات والأفكار المنحرفة    وفاة الأديب عبدالرحمن بن فيصل بن معمر    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاقتصاد السعودي ... التعامل مع تماسيح العولمة بأدوات غير تقليدية
نشر في الحياة يوم 09 - 02 - 1999

على رغم المشهد الاقتصادي العالمي الحالك، ليس امام المتعاملين مع الاقتصاد، على تفاوتهم، الا البحث عن نافذة للضوء. وفي الساحة المحلية، ليس مبرراً ان يستورد من "ضيع" امواله في الاسهم الآسيوية تشاؤمه فيعكسه على السوق المحلية، وليس مبرراً ان يجلب لنا هواجسه السوداوية من "جمد" ملايينه في اونصات الذهب قبل تراجع قيمتها، ومن هجر امواله وراء الحدود ان يختلق مبررات مثبطة تحوم حول الاقتصاد المحلي لتعليل فشل استثماراته في الدول المجاورة. وفي المقابل، ليس مطلوباً ممن ضاعف ثروته في بورصة نيويورك ان يجلب لنا تفاؤله. ولعل الامر المبرر: تكوين مزاج عام وفقاً لأداء الاقتصاد المحلي حقيقة، ولما هو متوقع له في المستقبل المنظور. وهذا يتطلب ضمن امور اخرى شفافية توضح الأداء وترسم خطوطاً بينة، يمكن للمهتم ان يستكشف من خلالها فرصاً.
لعل المقدمة ضرورية لتوضيح ان الاقتصاد العالمي يمر في حال صعبة بالفعل، يشبهها بعض الاقتصاديين بالمرحلة التي مهدت للكساد العظيم في الثلاثينات عندما ارتدت الدول الكبرى تحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا عن انفتاحها التجاري واخذت تضع العوائق فتبعتها بقية الدول الواحدة تلو الاخرى. وبعيداً عن السرد التاريخي عانى العالم في الاعوام الاخيرة لأسباب تذكرنا بانتهازية شركة الهند الشرقية. اذ بدا في وقت من الاوقات كما لو ان لا حياة للمستثمرين من دون آسيا، التي كانت البيضة التي تبيض لهم ذهباً. لكنهم سرعان ما تنكروا لها، فتقلصت تدفقاتهم الى آسيا بمقدار مئة بليون دولار تقريباً خلال عام واحد. واقليمياً، يستحق ما حدث العام الماضي للاتقصادات النطية، وتحديداً في دول مجلس التعاون، التقصي. فنحن نعرف حياتنا قبل النفط، لكنها كيف ستكون بعده؟ وليس القصد مجرد التساؤل بل وضع الخيارات غير النفطية موضع التنفيذ. وليس الهدف استعداء احد، ولكن القول ان احداً لا يرانا الا من خلال مصالحه.
القيمة المضافة
لم يعد السؤال، المطروح اعلاه، فلسفياً او اكاديمياً تنظيرياً، اذ تقلص قطاع النفط السعودي خلال العام الماضي بمقدار الثلث، ليصبح الاقتصاد ككل وجهاً لوجه مع قطاعه الخاص. وفي هذا عودة لطبيعة الاشياء، فالقطاع الخاص هو بطبيعته عماد الاقتصاد، وهو منبع القيمة المضافة القائمة على الانتاج، والقطاع الذي يهدف الى الربح والقائم على التنافس الذي يتطلب كفاءة وضخاً استثمارياً متواصلاً. ولذا يمثل ايجاد قطاع خاص متحفز ومتحرر من القيود وصفة لاقتصاد مستقر النمو. وحالياً، يولد القطاع الخاص ما عدا النفط النصيب الاعلى من القيمة المضافة مقارنة بقطاعي النفط والحكومة، فقد بلغت مساهمته حوالى 51 بليون دولار مقابل اقل من 38 بليوناً للنفط عام 1998.
ويبدو مفيداً التحرك بسرعة في اتجاه منح الممارسة الاقتصادية جملة وتفصيلاً للقطاع الخاص، فهي حرفته في الاساس، وعندما تفتح انشطة للقطاع الخاص ويقنن نشاطه في اخرى، فذلك يعني في نهاية المطاف نمو "عضلاته" في نواحٍ وضمورها في اخرى، ليصبح في نهاية المطاف قطاعاً مشوه النمو. وترك الممارسة الاقتصادية بيد القطاع الخاص يمكن تبريره وفقاً لمتطلبات محلية ملحة، ليس توليد الوظائف للسعوديين والسعوديات اقلها اهمية. اذ ليس في مقدور الحكومة استيعاب مزيد من الموظفين، بل يمكن الجدل ان هناك حاجة لكي تقلص الحكومة جهازها الوظيفي طلباً لرفع الانتاجية وتوجيه الاموال لمسؤوليات اعلى في سلم الاولويات.
واذا كانت قدرة الحكومة على توفير الوظائف محدودة، فالأمر لا يختلف كثيراً في قطاع النفط، اذ لا يستقيم ان تتقلص ايرادات هذا القطاع ويحافظ مع ذلك على حجمه من دون تغيير. وهكذا، نجد ان هناك ما يدفع الى القول ان مستقبل الاقتصاد السعودي بيد القطاع الخاص السعودي: فهو يمسك بمفاتيح ازالة التشوهات الاقتصادية القائمة في سوق المال وسوق العمل وسوق السلع والخدمات. حيث يملك المال للاستثمار، ويمكنه استيعاب مئات الآلاف من الوظائف للمواطنين عن طريق احلالهم محل غير السعوديين في الاعمال القائمة والجديدة، ويمتلك فرصاً لتنمية الصادرات غير النفطية، وتخفيف الضغوط عن ميزان المدفوعات.
ولكن ما دور الحكومة؟ امالاً، عندما يمارس اي طرف نشاطاً اقتصادياً فهو يمارس نشاطاً تعود تبعيته للقطاع الخاص، ولم يفت ذلك الحكومة السعودية، اذ سطرته بوضوح في وثيقة الخطة الخمسية السادسة الحالية، فذكر ما نصه:
"الاستمرار في تبني سياسة فتح المجال للقطاع الخاص لمزاولة كثير من المهام الاقتصادية في الدولة على اساس ان لا تقوم الحكومة بأي نشاط اقتصادي يمكن ان يؤدى بواسطة القطاع الخاص".
ولا يمكن التأكيد بما فيه الكفاية على اهمية ايجاد منافذ لاستيعاب الموارد البشرية المتدفقة على سوق العمل المحلية، اذ تضاعفت قوة العمل السعودية خلال الفترة 1980 - 1996، من ثلاثة ملايين الى ستة ملايين، ويتوقع ان تنمو بنحو 2.3 في المئة سنوياً في المستقبل المنظور. ويبدو مقبولاً القول: ان ليس في وسع احد استيعاب مثل هذه الارقام نحو 200 الف سنوياً سوى القطاع الخاص، لسبب بسيط وهو ان توسع القطاع الخاص مطلوب ويؤدي الى نمو الاقتصاد، لكن الامر ليس كذلك بالنسبة لتوسع الحكومة، الذي يعني مزيداً من الانفاق. اما توسع القطاع الخاص فيجب ان يعني مزيداً من الاستثمارات والوظائف والصادرات.
ربما اختلفت الاجتهادات في التطبيق، لكن الخيارات تبدو واضحة: هل نريد ان نبقى دولة نفطية في المستقبل ام نسعى لنصبح دولة متنوعة الاقتصاد؟
احتكر النفط المركز الاول قرابة نصف قرن كممول للخزينة العامة. فهل آن اوان نقله الى مرتبة متأخرة طوعاً، اذا قلنا ان النفط ادى دوراً محورياً في تمويل التنمية بتوفيره اكثر من 4.2 تريليون ريال لها. وأتى الوقت لتغيير موقعه نوعياً، ليكون رافداً للاستقرار الاقتصادي وليس محوراً رئيسياً فيه. سنجد من يقول: كيف، والنفط هو عماد اقتصادنا؟ نقول: لا بد من ان نرسم تصوراً لنقل السلطة الاقتصادية من النفط الى القطاعات الاخرى بهدوء ووفق منظور صارم، يعزز مكانة الاقتصاد السعودي الدولية باعتبار الانشطة الاقتصادية الاخرى التي بقيت في الصفوف الخلفية في ظل النفط. ويمكن الجدل ان توجهاً من هذا النوع غدا ضرورياً سواء ارتفعت اسعار النفط أم لا، اذ بات تذبذب ايرادات النفط خطراً يجب لجمه. وباختصار، فاللجم يكون بتسليط جهود المجتمع على تعظيم مساهمة القطاع الخاص، وفي الوقت ذاته تمرير ايرادات النفط عبر صندوق، يمكن تسميته "صندوق احتياط الموازنة"، هدفه تمويل العجز في الموازنة من اموال مقبوضة، وليس من دخل متوقع. ولا بد من ملاحظة ان القضية لا تكمن في الصندوق او في تسليط الاهتمام على القطاع الخاص، بل تكمن في تحول فلسفي في مصدر تمويل وظائف الحكومة.
ازالة العوائق
لا يتسع المجال لتناول منظور التحول الى اقتصاد متنوع بأي قدر من التفصيل، ولكن يمكن الايجاز بالقول ان المنظور يمر عبر مراحل متتابعة لعل اولها واهمها ليس تنمية ايرادات الخزانة كما قد يعتقد بعضهم، بل مرحلة "ازالة العصي من العجلة" حتى تدور من دون عوائق، ما دمنا سلمنا بأنها عجلة تسعى الى خير المجتمع وافراده. والمقصود هنا عجلة الاقتصاد السعودي على اختلاف انشطته. وترمي هذه المرحلة الى ان يكون كل شخص طبيعياً او معنوياً معنياً بالانتاج وبتقديم افضل ما عنده، والسعي الى نبذ الروتينية البيروقراطية التي تهدر الوقت والمال. وهي تعني كذلك ازالة العوائق امام انطلاق المنافسة المحلية لتتمكن المؤسسات النشطة الكفوءة من ازاحة المؤسسات الاقتصادية الهامشية والطفيلية التي تأخذ من الاقتصاد الوطني اكثر مما تعطيه. وفي هذا الاطار ليس مقبولاً ان يشير احد بالاتهام الى الآخرين، فمسؤولية تعظيم ثروة المجتمع تقع على كل فرد فيه: باستقطاب الاصول المنتجة، وبالحرص على ان ينتج اقصى ما يمكن، واعتماد افراده - اكثر فأكثر - على امكاناتهم، وسعي كل فرد الى تحمل اعبائه. ولعل مزاولة امر من هذا النوع تقلص فاتورة العجز في العمالة التي تزيد عن 15 بليون دولار، وفاتورة العجز في ميزان الخدمات التي تتجاوز 18 بليوناً، وهذه ارقام فلكية تفيض حتى عن ايرادات النفط المتوقعة.
وبعيداً عن الاطالة، يمكن الجدل ان مرحلة "ازالة العصي" قد تؤدي الى تحقيق الاقتصاد السعودي مكاسب في الانتاجية تنجم عن مراجعة النظم ذات الطبيعة الاقتصادية وتحديثها، وتبسيط الاجراءات الروتينية، وتقليص العمالة الهامشية، وتقليص العمالة الحكومية. وفوق ما تقدم، يمكن الجدل ان مرحلة "ازالة العصي" ستؤدي الى تحقيق مكاسب منها، على سبيل المثال، تحسين مناخ الاستثمار المحلي بجعله اكثر تنافسية. وتحسين الميزة التنافسية لم تعد رفاهاً بل ضرورة. ومع ذلك هناك من يعتقد بأن سوق المال السعودية، بحكم ان التداول فيها مقصور على السعوديين، هي بمنأى عن التطورات العالمية، لكن هذا امر ابعد ما يكون عن الواقع، فالاموال المحلية تترك سوق الأسهم المحلية لتستثمر في سوق مالية مشتعلة مثل السوق الاميركية وأسهم شركات "انترنت" فيها التي تضاعف قيمتها السوقية كل بضعة اشهر. اذاً، فمرحلة ازالة العصي قد تنطوي على مكاسب ملموسة تتجاوز مجرد الحث والحد والتوفير.
إتمام الصفقة
واذا انطلقنا الى الخارج نجد مشهداً لن يتجاوزه الانتباه: فاقتصادات الدول تماماً كبصمة الواحد منا، فريدة لا مثيل لها. هناك من يقرأ البصمات، ولكن لا يوجد من يمكن ان يصف حلولاً عامة ناجعة تصلح للاقتصادات جميعاً بتنميطها في قوالب جاهزة. وعلى رغم ترابط اقتصادات الدول، غير ان المجتمعات تتمايز في اسواقها وتركيبتها الاجتماعية وتقاليدها المرعية ما يساهم في نحت سمة لكل مجتمع تؤثر في مجريات اقتصاده. وهكذا، نجد ان محاولة الاصلاح الاقتصادي لا تنجح ان لم ترتكز على اقتناع محلي. ومع ذلك ستجد من يتبرعون من المؤسسات او المراكز الخارجية لعرض وجهات نظرهم في الاوضاع الاقتصادية لبلد او لآخر، عاقدين مقارنات تمثل اهتماماتهم في معظم الاحيان، اذ لا يمكن تجاوز ان ليس في الامكان قياس اقتصادات الدول المختلفة على مسطرة واحدة من دون التضحية بعمق المعالجة. والمقارنات الخارجية ضرورية لأهداف محددة، لكنها تصلح اكثر ما تصلح للمستثمرين والتجار الوافدين، فعلاقتهم بالاقتصاد ليست ازلية بل تتمحور حول اتمام صفقة مربحة وليس الحفاظ على مستقبل اجيال متعاقبة.
ويبقى الفهم المحلي اعمق حتى عندما يتعلق الامر بتأثير الظواهر العالمية في الاقتصاد المحلي، ويتبادر الى الذهن مثالان حديثان الاول سعودي يتعلق بالنفط والتكتل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون، والثاني مصري يتناول بوادر تفلت الدول الصناعية من وعود العولمة. فقد تلمست شرائح عريضة قضايا اقتصادية لصيقة في خطاب الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في ابو ظبي في قمة دول مجلس التعاون في ديسمبر كانون الاول الماضي 1998، الذي تناول فيه انتهاء الطفرة، والازمة الاقتصادية، والتحول في دور القطاع الخاص المحلي، وتأثير أداء سوق النفط العالمية في الاقتصادات المحلية في دول مجلس التعاون. واخيراً في دافوس ورغم اطلاق بالونات اختبار وظهور تصريحات بأننا لسنا في حاجة الى تقنيات واستثمارات، كان للرؤية العربية حضور، فبرزت كلمة الرئيس حسني مبارك، التي اضفت رونقاً فكرياً على الوجود العربي في هذا الملتقى الاقتصادي المؤثر، اذ طرحت تساؤلات ناضجة عن العولمة من منظور محلي: فهل العولمة ملزمة لطرف دون اطراف؟ وهل على الدول النامية ان "تتعولم"، فما يكون من الدول الصناعية الا ان ترتد عن دعواتها الانفتاحية؟!
التلون العولمي
ويبدو ان احتلال العولمة حيزاً عريضاً من الاهتمام في دافوس هذه السنة جاء نزولاً عند رغبة الدول الصغيرة. فقد "عاتبت" الدول والشركات في العالم الثالث الدول الاقتصادية الكبرى على اسلوب "التلون العولمي" الذي تمارسه: فهي احياناً عالمية وفي احيان اخرى غير عالمية. والامر الذي يحكم تلون الدول الصناعية اجمالاً هو عدم الثبات على اسس عالمية بل اصرارها على الاحتفاظ بأسباب ذاتية لتقلب توجهاتها تبعاً لمصالحها، ولتذهب - بعد ذلك - بقية العالم الى الجحيم! وحتى تخلص الدول الصناعية من ضغوط سياسية، فهي لم تعد معنية بكرسي "شيخ التجار"، بل تريد ان تبيع وتشتري وتكسب في منأى عن الوجاهة المكلفة. ومن هذا المنطلق تخلصت من كل عطف تمتلكه وجيّرته في منظمة يقولون ان لا احد يتمتع فيها بحق النقض، وهي تفصل في النزاعات بحزم، كما يقولون. ويبدو ان الدول الصناعية ستكون غاية في الاطمئنان الى ان يكون احد مواطني الدول "الطفرانة" اميناً عاماً لمنظمة التجارة الدولية.
وإمعاناً في تبيان حقيقة اهتماماتها اخذت القوى الاقتصادية الكبرى "تتعارك" على الصغيرة والكبيرة، وليس أتفه من الشد المحتدم بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي على الموز. وكم كان الصراع مقنعاً لو كان على النفط مثلاً، فالنفط سلعة استراتيجية تمنح مصانع الاقتصادين العظيمين في اوروبا واميركا الطاقة، وتمنح خزائنهما الضرائب.. اما الموز، فهو المصدر المفضل التقليدي لمد لاعبي التنس بالطاقة بين الاشواط! وليست القضية قضية موز فقط، بل ان اليابان تستعد لتشكو الولايات المتحدة الى منظمة التجارة الدولية لعرقلتها الصادرات اليابانية من الحديد! وفي المقابل ان هيئات اميركية عدة تقاضي روسيا واليابان والبرازيل بدعوى اغراقها السوق الاميركية بالحديد المدرفل. وهكذا، نجد ان "التفاصيل" اخذت بتلابيب العمالقة، ونحن ننهك انفسنا في تفسير ابعاد العولمة، ونبحث عن مستقبلنا فيها وسط حيرة شديدة. فمنا من يقول ان القطار فات، وآخر يطمئننا الى ان القطار لم يفتنا بعد، وآخر يقول: ان ليس ثمة قطار، غاية الامر ان القوى الاقتصادية تريد غزو الاسواق تحت غطاء قانوني.
الدور على من؟
وسط الصعوبات التي تتعرض لها دول العالم النامي من كوريا الى البرازيل، تتملك المتابع للاقتصادات العربية حيرة، يمكن اختزال جوانب منها في سؤال: ما الذي في وسع الدول العربية فعله في حال سقوط احداها في دوامة اقتصادية عاصفة؟ وهل في امكان صندوق النقد العربي ان ينتشلها؟
وعلى رغم ان السيل الجارف من الاسئلة يفرض الاطار الاوسع ذاته، فهناك من يهاجم صندوق النقد امثال جورج سوروس في حين ان دولاً عدة جثت تستعطف الصندوق دواء لمعضلاتها الاقتصادية. ويزيد من شدة الحيرة ان اساطين صندوق النقد الدولي مشغولون بشأن فلسفي داخلي: ما دور الصندوق في الكوارث الاقتصادية، وهل يكون ملاذاً اخيراً، ام يمارس دوراً مبكراً يساهم في تفادي الأزمات.
وإذا تركنا زهد الدول الكبرى في التفاعل مع آلام الدول النامية، وإذا تجاوزنا تطلعات كبار المضارين ونياتهم من امثال سوروس الذي يهاجم المؤسسات المالية الدولية وهو من اكبر المستفيدين من اخطائها وبطء تحركها ومن اخطاء الدول التي تركت امر سياساتها الاقتصادية تتقاذف تحركها ردت فعل هنا وهناك... اذا تجاوزنا كل ذلك، نجد ان الدول الاصغر تدفع اثماناً باهظة نتيجة "ثقتها"، وأحياناً انقيادها، للاقتصادات الكبرى.
وفي هذا السياق، لعل من المناسب استرجاع جوانب مما حدث عندما انطلقت الشرارة التي اشعلت آسيا في ايار مايو 1997؟ مارست الاقتصادات الرأسمالية انتهازية مقززة، فقد تركت الاقتصادات الآسيوية تتلوى. فتلتقط هي الشركات الآسيوية بسعر "الخردة". وبعدما كانت الاستثمارات تهطل على آسيا بلا حساب، تراجع التدفق الاستماري بأكثر من 100 بليون دولار خلال اشهر. وليس القصد هنا الحديث عن مؤامرة من نوع او آخر، بل بيان الانتهازية المفرطة من جانب الاقتصادات الكبيرة: الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي، ودرجة عالية من النفاق تتحلى بها المؤسسات المالية العالمية التقليدية.
انتهازية ونفاق
ماذا يعني كل هذا؟ ما معنى ان تكون الاقتصادات الكبيرة مفرطة الانتهازية؟ قد يعني انها على استعداد للاصطياد في الماء العكر، وعلى استعداد لاستثمار اخطاء الآخرين. ويبدو الأمر مخيفاً عندما ندرك اننا نحن من "الآخرين". اذا، من المهم الا تخطئ الدول النامية. وأهمية تفادي الخطأ قد تتجاوز أهمية الانطلاق بعيداً بأفكار غير ناضجة، فقط لاستجلا "اعجاب" كهنة النظام العالمي الجديد وعرابيه والحصول منهم على كلمات اطراء فارغة. فما قيمة ان يخرج احد مسؤولي صندوق النقد الدولي، او احد مديري البنك الدولي ليمتدح "انفتاح" دولة ما، او برنامج التخصيص فيها، اذا كان الصندوق والبنك سيقفان معا في اول صفوف المؤنبين عندما تتعرض تلك الدولة لمحنة اقتصادية من نوع أو آخر؟ وهكذا، يمكننا القول ان محرك التغيير الاقتصادي يجب ان يكون محلياً ما دامت تبعية النجاح والفشل في واقع الأمر محلية كذلك.
وهنا، علينا استذكار سلوك الصندوق والبنك في محنة كوريا، النمر النابغة، التي جعلت منذ الستينات الانفتاح على الخارج هدفاً، الى حد ان مجلس الصادرات كان برئاسة رئيس الجمهورية ويعقد اجتماعات شهرية لتنمية الصادرات. وما تنمية الصادرات سوى معلم من معالم الانفتاح الاقتصادي القراح. ورغم ذلك شاهدنا على شاشات التلفزيون كيف انهار النمر الكوري، وكيف اخذت الحرائر هناك تبيع الخواتم والأقراط والأساور من اجر كوريا. بالنسبة اليّ كان مشهداً مدهشاً، كان اقرب الى حالة من التضامن الجماعي لئلا تفنى كوريا وتعود الى الزراعة بعد ان "دوخت" منتجاتها من "أشباه الموصلات" دولاً ومستثمرين كباراً. ثم يأتي اصحاب الياقات المنشاة وربطات العنف الغالية لتوقيع اتفاق استسلام اقتصادي. في تقديري كان المشهد شبيهاً بما فعله الجنرال مكارثر في اليابان مع اختلاف في بعض التفاصيل.
ثم ماذا قدمت قوى "العولمة" الى كوريا؟ تقريعاً اقتصادياً ثقيلاً على مدى اسابيع طويلة، مع افراد فصول للحط من قدر أداء القطاع المصرفي الكوري، وانه كان يعمل من خلال محسوبيات وترتيبات بين الحكومات والمصارف لمصلحة الشركات الكبرى بعيداً عن الاعراف المصرفية المعتبرة. كل هذا تقريع مستحق، ولكن ماذا عن بنك التسويات الدولية؟ لماذا لم يطلق صافراته "الفارغة" قبل حدوث الكارثة؟ ام انه مجرد هيئة تمارس عملها بروتينية مملة، تصدر تقارير رصد أداء المصارف بتفصيل ممل الشهر اثر الشهر، والفصل اثر الفصل، ثم لا يملك القانون على البنك تفسيراً لما يجري من تغييرات في اداء المصارف! ولا يمكن التبرير ان صمت الاطراف جميعا كان بريئاً، او انه كان مبنياً على عدم فهم او ادراك لما يجري في ردهات المصارف وبيوت السمسرة والتجارة والصناعة في كوريا او سواها. بل يمكن الجزم بالعكس. والمبرر ان دول جنوب شرقي آسيا منفتحة وموبوءة بالمصارف وبيوت السمسرة والابحاث الاجنبية، خصوصاً الاميركية والأوروبية. وإذا كنت تشك في ذلك، فما عليك الا ان تتابع نشرات الاخبار الاقتصادية على محطات عامة مثل "سي. إن. إن" او "بي. بي. سي" لتجد كماً كبيراً من الاخبار يبث عن آسيا وأسواقها. وهذه التغطية لم تبدأ اثر الكارثة الآسيوية بل منذ اعوام طويلة، وهناك محطات متخصصة في تتبع الشأن الآسيوي وصحف ومجلات وتقارير محدودة الاشتراك وقواعد بيانات الخ... وأنا هنا لا اتحدث عن مؤامرة، ولا عن حرب حضارات، بل عن جشع مفرط وانتهازية ليس لها حد.
والقصد من تناول الكارثة الآسيوية البيان ان العالم يتغير من حولنا ليصبح اكثر رغبة في الربح وهلعاً من الخسارة، وان التفاعل مع هذه التغيرات ضرورة ملحة، لكن لا مجال لارتكاب اخطاء. ومن جهة اخرى، للبيان ان وجهات النظر الخارجية لا يمكن اخذها على وجه واحد بريء، فهي قد تعمل من منطلقات خاصة بها. وفوق ذلك، فمباركة المؤسسات الدولية الحاضرة قد تنقلب الى توبيخ لاحقاً. فهذه المؤسسات تخدم اهدافها، وليست جمعيات خيرية تريد ان تقيل العاثر لمجرد أن ذلك خلق إنساني نبيل. وهكذا، نجد أننا نسير في بحيرة مزدحمة بالتماسيح الفاغرة أفواهها. وان حالة العولمة الحاضرة تسعى إلى فك الاشتباك بين التماسيح. أما الكائنات الصغرى فعليها المبادرة والإقدام من دون ارتكاب أخطاء تستفز التماسيح.
نصف انفتاح
أمام هذه الأوضاع العالمية الصعبة بالفعل، قد يذكرنا البعض بأن دول العالم أقامت مؤسسات اقتصادية عالمية لتعزيز التجارة الدولية وتخليصها من العقبات النوعية والكمية. نعم، ولكن لا بد من التفكر قليلاً في الأمر. الدول الاقتصادية الكبرى أوجدت مؤسسات تضع قواعد بسيطة تدعو إلى إباحة الأسواق المحلية، لكن الدعوة ليست خالية من شروط غير معلنة. فالتجارب التاريخية تفيد ان الدول "تلحس" تعهداتها عند الاضطرار، وهذا ما فعله قرار "سموت - هاولي" في الكونغرس الذي رفع تعرفة الاستيراد معدلات قياسية. وبقرار التعريفة البريطانية في الثلاثينات.
ولنترك الاضطرار جانباً، للنظر مثلاً إلى سلوك الدول المتقدمة في منظمة التجارة الدولية، نجدها اتخذت سلوكاً محدداً، أخذت تلك الدول مثلاً زمام المبادرة لفتح سوق تقنيات المعلومات في أقرب فرصة، حرصاً على مصالحها ولتحجيم الفرص الاستثمارية للدول الأخرى في هذا المجال. ومارست أمراً مشابهاً لفتح سوق الاتصالات. لكن انتهازية هذه الدول لا تسعفها مثلاً لفتح سوق البتروكيماويات. لذا، فليس في الأمر عدل، بل الأقرب أن الأمر قائم على مصالح الاقتصادات الكبيرة والشركات العالمية. وهذا أمر معروف منذ أن ظهرت الشركات المتعددة الجنسية، ومنذ ان أخذت تمارس دوراً مريباً يحرم شعوباً من لقمة العيش حتى تتمتع هي بالأرباح المتزايدة، فظهر ما يعرف بجمهوريات الموز مثلاً.
إذاً، الأمر لا يحمل كشفاً جديداً، بل تأكيد لأمر لا يمكن تجاوزه وهو ان القوى الاقتصادية تكره النجاح إلا إذا كان لها فيه نصيب. وتنافق من لا تقوى على معاداته، وتقرع من يفشل حتى ولو امتلك سجلاً حافلاً بالانجازات. ولعل هذا يأخذنا إلى النقطة المحورية وهي ان الأوضاع الاقتصادية في السعودية ودول الخليج العربي في حاجة إلى حلول محلية المنبع، ومحلية الاقناع، وليست هذه دعوة إلى للانكفاء على الذات، بل هناك حاجة إلى تعرفات جديدة لعلاقاتنا الاقتصادية مع عالم يتغير من حولنا، عالم قرر أن تكون "المنافسة" قانونه وديدنه. ونحن ندرك ان المبارزات الاقتصادية ستستمر بين المصنعين في أنحاء العالم، حتى يستقر الحال على مصنعين كبار أقوياء، يسودون السوق العالمية. ولا أحد يقول إن هؤلاء يستقرون في الدول الصناعية الكبيرة. ليس بالضرورة. فالهدف هو القيمة المضافة للاقتصاديات والربح الصافي للشركات، بمعنى:
ان الدول الكبرى ستحرص على الاحتفاظ بمنابع القوة المضافة، فهي سر النمو الاقتصادي.
ان هذه الدول ستنحاز إلى شركاتها لتحقيق أعظم الأرباح، فهذه الأرباح تشكل الدعامة الأهم للضرائب التي تغذي خزانات الحكومات.
وشرطا القيمة المضافة العالية والربحية المتزايدة متحققان في الصناعات الناشئة، مثل صناعات المعلوماتية والحيوية. ولذا، تحرص الدول المتقدمة على تحقيق نجاحات واضحة فيها، وبعد أن تثبت تفوقها وتطمئن إلى أنها قطعت شوطاً بعيداً تطلق صيحات الانفتاح. وتطلق الدول المتقدمة تلك الصيحات في ردهات المحفل الأهم "منظمة التجارة الدولية"، فيجتمعون معاً ويحشدون الحشود، ليصاغ بيان يتبناه المجلس الوزاري ويكون الأمر في حكم المنتهي.
ماذا يعني هذا: محاربة منظمة التجارة الدولية؟ أم محاربة الدول الاقتصادية العظمى؟ أو نذر الذات لكشف المخططات الجهنمية للشركات العالمية؟ لا، بل ان ندرك ان تحركاتنا الاقتصادية العالمية ضرورية ويجب أن تكون ضمن التيار العالمي. ماذا يعني هذا تحديداً وعلى نحو عملي؟ أن ندفع برجال أعمال يمتلكون حساً ريادياً عالياً وانحيازاً راسخاً إلى الذات الوطنية، ليصنعوا منصة لصيد السمك، ويقنعوا تماسيح العولمة بتركنا نرمي حبالنا لنصيد. ولكن: هل تشترط التماسيح اقتسام الأرباح؟! لعل مجرد تنبههم أن لدينا فرصاً واعدة هو بداية نجاح اقتصادي جديد.
* كاتب اقتصادي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.