نجحت الحركة الصهيونية في اقامة دولتها، بعد ثلاثة عقود على صدر وعد بلفور 2/12/1917 الذي منحته بريطانيا، الدولة المستعمرة لفلسطين، لهذه الحركة، والمتضمن اقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين". وفي الحقيقة فإن تفسير هذا النجاح لا يزال موضع جدل لدى المهتمين والمؤرخين. فثمة من يرجح دور العوامل الخارجية، ومن يؤكد على العامل الذاتي لليهود وحركتهم الصهيونية، ومن يحيل ذلك على هشاشة الوضع العربي آنذاك، وثمة من يفسر ذلك بهذه العوامل كلها. منذ قيامها توافرت للحركة الصهيونية مجموعة من العوامل الموضوعية، التي مكنتها من تحقيق مشروعها. وبالأساس فان الحركة الصهيونية اقامت دولتها بالاعتماد على وسائل الاستيطان- الاحتلالي والقوة العسكرية، وبفضل الاعتماد على دعم القوى الاستعمارية، بخاصة بريطانية ثم الولاياتالمتحدة الاميركية. ومن الصعب تصور امكانية نجاح هذه الحركة في تحقيق اهدافها، بمعزل عن هذا الدعم الذي تلقته من الدول الكبرى المهيمنة في العالم، التي كان لها اصلاً دور كبير في قيام هذه الحركة وتطورها، والتي رأت في قيام هذه الدولة مصلحة خاصة لها في سياستها ازاء هذه المنطقة. بالنسبة الى العوامل الخارجية، مكنت الدولة المنتدبة، بريطانيا صاحبة الوعد، الحركة الصهيونية من ترسيخ اقدامها في فلسطين، فمنحت هذه الحركة، ممثلة بالوكالة اليهودية، مكانة سياسية، شكلت البرعم الأول للدولة الاسرائيلية، في حين انها حالت دون التمثيل السياسي للفلسطينيين، كما منحت هذه الوكالة الأراضي الخصبة، وقدمت الحماية للتجمعات الاستيطانية، ورعت الألوية العسكرية الأولى لهذه الحركة في اطار جيشها. وبالأخص فإن بريطانيا عملت على وأد الحركة الوطنية الفلسطينية. وينقل وليد الخالدي في محاولاته الهامة لاعادة كتابة تاريخ النكبة، عن محمد عزة دروزة، رصده لخسائر الفلسطينيين في النصف الثاني من عقد الثلاثينات على يد الجيش البريطاني، حيث يقول: "بلغ عدد المعتقلين خمسين ألفاً وعدد الشهداء سبعة آلاف وعدد الجرحى عشرين ألفاً وعدد البيوت المنسوفة الفين". وبحسب الخالدي فقد "بلغ عدد الأسلحة المصادرة من الفلسطينيين خلال الفترة 1936 - 1940، بحسب المصادر الرسمية البريطانية: 6371 بندقية و3220 مسدساً و1812 قنبلة و425 ببندقية صيد". ويقدر الباحث احمد السيد النجار، مجموع المساعدات التي وصلت الى اسرائيل، منذ قيامها، بحوالى 180 بليون دولار اي 450 بليون دولار بأسعار الوقت الراهن. ويقدر المساعدات الاميركية لاسرائيل بحوالى 66588 بليون دولار، اما المساعدات الألمانية، فيقدرها بحوالى 60 بليون دولار، في حين بلغت أموال الجباية اليهودية الموحدة حوالى 19368 بليون دولار. وبالطبع فقد استفادت اسرائيل، من الناحية الاقتصادية، كثيراً من استيلائها على أراضي فلسطين وأملاك الفلسطينيين، والبنى التحتية والمنشآت، والمياه. وبحسب الباحث سلمان أبو ستة، فإن قيمة هذه الاملاك التي سلبتها اسرائيل، بلغت، بتقدير سامي هداوي، 743 مليون جنيه استرليني بأسعار العام 1948، وهذا المبلغ يساوي، بحسب ابو ستة، 130 بليون دولار بأسعار العام 1993. بمعنى ان مجموع المساعدات والمكاسب التي حصلت عليه اسرائيل منذ قيامها، حتى الآن، بلغت حوالى 600 بليون دولار، لحوالى ستة ملايين نسمة! الى جانب الدعم السياسي والمالي والأمني والتكنولوجي الذي تلقته اسرائيل، من الدول الكبرى، فإن للوضع العربي نصيبه في تحمل مسؤولية قيام هذه الدولة. ويمكن من ملاحظة الاستعداد العسكري للتجمع اليهودي في فلسطين، قبل النكبة، ومستوى الاستعداد العربي، ملاحظة الفارق الهائل في استعداد الجانبين، وبحسب وليد الخالدي، فإنه عندما بدأت التعبئة العامة للمستوطنين اليهود، في 30 تشرين الثاني نوفمبر 1947، بلغ عدد الذين تقدموا للخدمة 82.500 رجل وامرأة حتى 15 نيسان ابريل 1948، ثم 94.500 شخص عشية اعلان الدولة. وقد تألف جيش الميدان، في 15 ايار مايو 1948، من 30.574 مقاتلاً نظموا في عشرة الوية. وقد ارتفع ملاك هذا الجيش بسرعة، الى 40.825 6 حزيران/ يونيو 1948، ثم الى 88.033 19 تشرين الأول/ اكتوبر 1948. وبالنسبة لموازنة الحرب فقد بلغت تبرعات الجالية اليهودية في اميركا وحدها 50 مليون دولار، جمعت ما بين كانون الثاني يناير وآذار مارس 1948. وكان مبلغ 50 مليون دولار في ذلك الحين يشكل ضعف ميزانية جيش مصر لعام 1946 - 1947. في المقابل صمد عرب فلسطين بمساعدة جيش الانقاذ غير النظامي نحو 5000 جندي، لغاية آخر آذار مارس 1948، هذا بالاضافة الى عدة الاف من المجاهدين الفلسطينيين والعرب الذين حال مستوى تدريبهم، وقلة تسلحهم، وضعف امكاناتهم من مستوى أدائهم. اما بالنسبة للجيوش العربية، فإن الدول العربية المستقلة حديثاً، وبحكم اوضاعها السياسية لم تستطع تحشيد قوة تزيد عن القوة التي حشدها التجمع الاستيطاني اليهودي الذي يقدر عدده بحوالى 600 الف مع الفارق في التسليح والامكانات وبالأساس في الارادة السياسية ووحدة القيادة. ولم يكن الوضع العربي دون مستوى المواجهة العسكرية، فقط، فقد كان دون مستوى التحدي الجديد، من نواح عديدة. فمثلاً اذا اخذنا قضية الهجرة اليهودية من البلدان العربية، يمكننا معرفة مدى قصور الوضع العربي. فقد هاجر الى فلسطين في ظل الانتداب البريطاني حوالى 483 الف مهاجر - مستوطن، 8 - 10 في المئة فقط منهم من يهود البلدان العربية، وقدر مجموع المهاجرين اليهود الى اسرائيل، بعد قيامها، في ما بين 1948 - 1993 بحوالى 2.3 بليون شخص منهم 687 الف مهاجر في الأعوام الثلاثة الأولى لقيام اسرائيل ما أدى الى مضاعفة عدد اليهود فيها، وكان 50 من مصادر هذه الهجرة من البلدان العربية! أيضاً فقد شكلت ممانعة النظام العربي لقيام كيان فلسطيني على باقي الأراضي الفلسطينية، التي فلتت من الاغتصاب الصهيوني، عاملاً من عوامل تثبيت شرعية اسرائيل، بمساهمتها، غير المباشرة، بتغييب الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة اسرائيل وتبريراتها الصهيونية. ولا شك ان الحؤول دون قيام تمثيل سياسي للفلسطينيين اضعف من قدراتهم، وشكل نجاحاً للحركة الصهيونية. ثم ان ضعف الارادة السياسية في المواجهة وتدني مستوى التضامن العربي في مواجهة الاستحقاقات الناشئة عن وجود اسرائيل، ساهما في استقرار اسرائيل وتطورها، كما في تعقيد المشكلة الناجمة عن قيامها في مختلف المجالات. هذه الاستنتاجات لا تعني التقليل من اهمية العامل الذاتي في قيام هذه الدولة، وتدعيم مصادر شرعيتها وتطورها، في ما بعد، ولكنه يعني انه لولا ضعف مستوى المواجهة العربية، لأسباب ذاتية وموضوعية، ولولا دعم الدول الكبرى لما تمكنت هذه الحركة من تأمين هجرة اليهود الى فلسطين والاستيطان فيها، ولا تأمين كل وسائل القوة للتغلب على المقاومة الفلسطينية والعربية، ولما استطاعت اسرائيل، في ما بعد، تأمين امكانيات استمرارها وتطورها من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية. وهذا يعني ايضاً، بأن اسرائيل لم تنشأ كنتاج للتطور المجتمعي والاقتصادي والثقافي والسياسي للتجمع اليهودي في فلسطين وانما نشأت نتيجة تضافر عدد من العوامل الذاتية والموضوعية الداخلية والخارجية التي سمحت بقيام هذه الدولة في حينه. وبالطبع فإن اسرائيل لم تستكن للدعم الخارجي، وعملت على استثماره بأفضل ما يمكن، وساعدت في ذلك طبيعة نظامها المؤسسي، والمستوى المتقدم للتعددية والتنوع السياسي والثقافي فيه، المدعوم بحياة ديموقراطية لمواطنيها، كما ساعد على ذلك ادارتها الحديثة لمختلف انشطتها المجتمعية والاقتصادية، ويكفي ان نعلم ان اسرائيل تخصص 3 في المئة من دخلها القومي، الذي يبلغ نحو 90 بليون دولار للبحث والتطوير العلمي، في بلد تعداده نحو 6 ملايين نسمة، في حين يخصص له العالم العربي أقل من 1 في المئة من ناتجه القومي البالغ 600 بليون دولار، لنحو 260 مليون نسمة! أخيراً سيستمر الجدل حول نصيب كل عامل من العوامل المذكورة، في قيام اسرائيل وتطورها، وفي غضون ذلك ستستمر اسرائيل في مواصلة تحديها للأوضاع العربية، حتى يستطيع العرب وضع الأسس الجدية اللازمة لمواجهة استحقاقات هذا التحدي: السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية وليس العسكرية فقط. وبدون هذه الاستحقاقات فإن اسرائيل ستواصل استهتارها بالحقوق العربية، مراهنة على ان الزمن يعمل لصالحها. وبذلك لا يستطيع العرب مواجهة اسرائيل، فقط، بالادعاء بأنهم انتهجوا طريق السلام والوئام معها، فهذا الأمر لوحده، كما اثبتت التجربة، قد تكون له مفاعيل عكسية على هذه الدولة المصطنعة. * كاتب فلسطيني.