وصول أبطال آيسف 2024 إلى جدة بعد تحقيق 27 جائزة للوطن    «التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    برعاية الملك.. انطلاق مؤتمر مستقبل الطيران في الرياض.. اليوم    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بمناسبة 75 سنة على تأسيسه . الحزب الشيوعي اللبناني في سن الماس ... مقيماً على تنصله من تبعات الحداثة
نشر في الحياة يوم 05 - 11 - 1999

كان "أصدقاء" الحزب الشيوعي اللبناني، وهو بلغ سن الماس في أواخر تشرين الأول اكتوبر المنصرم، أشد نعاته حماسة وأقواهم يقيناً. فلم يكتم معظم مشاركي الحزب في الإحتفال بذكرى إنشائه، قبل سبعة عقود ونصف العقد، بعض التشفي من الحال التي انتهى إليها "أقدم حزب سياسي في لبنان"، على قول أحدهم. ولكن النعي لم يكن صافياً من مشاعر أخرى ليس أقلها ظهوراً ووضوحاً الشعور بخيبة عامة لم يستثن المؤبنون والنعاة أنفسهم منها، ولا هم استثنوا "البلد" - على ما يقول بعض اللبنانيين في وطنهم، متوارثين تسمية حائرة تدب حماها في ألسنتهم وأقلامهم بين الوقت والآخر.
فعزا بعض النعاة حلول الشيوعيين "الكتبَ والنصوصَ القديمة"، ولزومهم هذا المحل وحده، إلى "تعب الجمهور"، واستظلاله "الطوائف" الدينية والمذهبية "وما توفره من رعاية وطمأنينة شاملة"، وإلى طلب الجمهور "جلسات تحضير الأرواح". وهذا ما يبرأ منه الشيوعيون، وتشرفهم البراءة منه، على ما يغمز الكاتب من قناة محضري الأرواح، من غير الشيوعيين - وهؤلاء، محضرو الأرواح، تفرد لهم صحيفة الكاتب الناعي الصفحات الطوال، والأخبار الأطول من أخبار الدينَوري، من غير حرج ولا تحفظ.
ونعى كاتب آخر، زميل للأول، على الحزب الشيوعي "إرتباكه" و"يتمه". وحمل "محنته" على "عصر الكومبيوتر والإنترنت والإي ميل والرساميل الطائرة..."، وعلى "الإنهيار المفجع لأعظم الثورات الشعبية في التاريخ الحديث" ويقصد بها انقلاب لينين وحزبه على ثورة شباط / فبراير 1917 الديموقراطية، وعلى أحزابها وحركاتها. وعرَّج الكاتب، في تطوافه ورثائه، على لازمة التعليل "اللبناني"، العروبي اليساري، للمشكلات كافة، وهذه اللازمة هي، من غير مفاجأة ولا تجديد ولا تعليل، "المستنقع الطائفي" أو "الحمى الطائفية". والعلة الجامعة هذه خُصَّ بها لبنان وحده، على زعم المقالات العروبية اليسارية، وعفَّت عن جواره العربي القح والصريح. فإذا دبت الحُمَّى في الحِمى العربي، وفي مدنه وأريافه، انقلبت إلى "رجعية" سائرة وعادية، وبرئت من أسباب، قوية أو ضعيفة، تشدها إلى عصبية الطوائف والمذاهب. وبراءتها، وبراءة المجتمع والدولة من العصبية، تصديق بعلمانية الدولة "العربية" التقدمية. وحلقات أفكار وأحكام هذا المنطق، نشأت وتبلورت في كنف الأحزاب الشيوعية العربية ورعايتها.
ويقع كتاب آخرون، بعضهم ما زال في صفوف الحزب الشيوعي، على علة ضمور الحزب في "خروج الأحزاب من مسلسل الأحداث والتطورات مجرحة مأزومة"، وتخلفها عن "تجديد نفسها". وينوه هؤلاء ب"زمن" غير هذا الزمن - وكان نعت أحمد شومان الزمن الذي سبقه، الزمن "الناصري"، ب"الرديء"، وبقي النعت على الدهر، ونُقِّل بين الأزمان والأوقات - "كان الحزب واليسار يملآن فيه الدنيا ويشغلان الناس، وتأتيهما الجماهير" على نحو ما يقصد الحاج محجته. ويغيب عن بال الكاتب أنه يرثي زمناً كان الباب على "الحرب الأهلية"، بحسب قول عروبي ويساري مزمن، والمدخل إليها. فالحزب الشيوعي اللبناني، ومعه الكتل والجماعات السياسية والأهلية العروبية، بلغت ذروة ظهورها، وفعلها على ما تحسب، عشية انفجار الحروب الملبننة، وتضافر المنازعات الإقليمية والدولية والداخلية على زعزعة الدولة اللبنانية ووحدتها السياسية والوطنية، واجتماعها على اتخاذ لبنان، مجتمعاً وإقليماً، مسرحاً احتياطياً توجه إليه خلافاتها.
ولا يشك محازبون معارضون في شَبَه "الأحزاب ... للطوائف أو القبائل". فالأحزاب، على زعمهم، ومنها الحزب الشيوعي اللبناني، تحذو حذو "السلطة"" وهذه تحوّلت إلى "حالة إدارية جهازية مخابراتية"، وعلى مثالها صارت الأحزاب اللبنانية إلى "ماكينات محكومة بهواجس الجالسين على قمة هرمها". وهذا ما لم تكنه هذه الأحزاب، ربما، يوم كان نعاة اليوم في "الجالسين على قمة هرمها" في الأمس، وبين المرشحين إلى منصب الأمين العام. ويعزو هؤلاء "الغياب السياسي" المتعاظم إلى هذا الشبه، الشديد، بالسلطة، وإلى إلحاح "غايات الوصول إلى موقع نيابي هنا وهناك، وعبر استرضاء الجهات النافذة المقررة، وهي طبعاً غير الشعب اللبناني...". وعلى جاري سُنَّة حزبية متمكنة يُنزل الحزبيون المعارضون انتهاك الأنظمة الداخلية الحزبية، عن يد "الجالسين على قمة الهرم"، منزلة عالية في تعليل ضعف الحزب، اليوم. فينبغي، على هذا، حمل قوة الحزب، و"حضوره السياسي"، على احترام الأنظمة الداخلية يوم كانت معطلة تعطيلاً تاماً، وكان يهيمن على الحزب عصبة من الأصحاب يلحم بين أفرادها ولاؤهم الأعمى لمقدَّمهم، إدارةً وجهازاً ومخابرات.
وينتبه بعض "الجيل الثالث" من الشيوعيين "الماركسيين"؟ - وهم جيل ثالث نَسَباً، ومن أحفاد الجيل الأول قرابة - إلى رجوع الحزب الشيوعي، حزب الجد والأب، عما كان السبب في "مشروعية وجوده" أي عن "تمثيله مشروعاً تحديثياً وحركة تطويرية". فهو كان يضطلع، بحسب أحد الأحفاد، ب"بناء المؤسسات والجمعيات"، وب"دور تربوي وثقافي وفكري" ثلاثة آلاف منحة إلى البلدان "السوفياتية" بين 1960 و1989، و"يشرك في حركته السياسية أوسع الفئات الإجتماعية ولا سيما الشباب والنساء". أما اليوم، فانقلب الحزب على "دوره": فأقصى "الرأي الآخر" عن رسم سياسته، وأبعد "الشباب والنساء من أبناء المدن وحملة الشهادات وفئات النخب أطباء... عن المشاركة في إنتاج القرار" و"تريَّف". ف"أسقط التفكير وشهر العصا". وانتهى إلى التشبه، مرة جديدة، ب"قوى وعصبيات طائفية".
وليست قيادة الحزب الشيوعي اللبناني آخر نقّاد الحزب، وإن جاء نقدها مجيء الكناية المواربة. فكرر رأس الحزب نقداً مشهوراً ومتعارفاً، قد يكون مدحاً في معرض الذم، يَعتب على الحزب تضييعَه، "في فترات معينة"، "استقلاليته"، أي التحاقه الصاغر بزعامة مذهبية من هنا - كان الإلتحاق بها شرط سلامة الحزبيين البدنية -، وبسياسة إقليمية من هناك - وأدى بعض التحفظ عن الإنصياع لها إلى إخراج الحزب من اقتسام "الجبنة" اللبنانية. وفي كل الأحوال ليست مصانعة الجهاز الحزبي السوفياتي مأخذاً ولا بنداً من بنود "التأريخ" المزعوم، على رغم أنها في رأس مسالك تضييع "الإستقلال" ودواعيه.
ويردد بعض أعيان الحزب الشيوعي صدى نقدٍ خافتاً يتناول مزاعم سابقة في الديموقراطية، وفي تتامها عن يد الحزب الشيوعي وفي "ممارسته"، على ما يحب الشيوعيون القول. فيتواضع رأس الحزب إلى "الديموقراطية" ويقول: "لن أقول مثلما كنا نقول سابقاً بأننا الأكثر ديموقراطية..." - ولكن التتمة تعيده إلى قول ما جهر لتوِّه الكفَّ عن قول. وينبه نائب رأس الحزب الشيوعي إلى رجوع حزبه في بعض "أوهامه"، ومنها توهمه أن الشيوعيين "بديل جاهز" عن "السلطة"، أي أنهم طاقم حكم تمرس، على رأس الحزب الشيوعي "الدولة النقيض"، على قول لينين، بالحكم قبل توليه الوزارات والمديريات العامة ورئاسات المصالح والدوائر. ويرسي المقدَّم الشيوعي معارضته، اليوم، في مرساها بالأمس، وهو "معارضة أي سلطة بمقدار ما تشكل تطبيقاً للنظام الطائفي".
وهذا كله، وغيره مثله، يُعيد إلى مسألة "نَحورُ ونَدورُ"، على قول العامية اللبنانية، ويتشعب القول فيها قبل أن يُحمل اللبنانيون على الكلام فيها. وهذه المسألة هي تناولهم تاريخهم القريب، والأبعد فالأبعد، بالتعليل، وروايته رواية متماسكة، فلا تتنكر الرواية لتظاهراته الكبيرة، ولا تلويها ليّاً شديداً ومتعسفاً لتدخلها في ثنايا الأساطير الجزئية. والمثال المشترك والعريض الذي يروي الشيوعيون اللبنانيون، وأصدقاؤهم ونعاتهم، على رسمه حوادث تاريخهم الحزبي، ومن ورائها يروون حوادث التاريخ اللبناني المعاصر، هذا المثال ينهض على مناقضة الديموقراطية بالطائفية. أما حوادث التاريخ، الشيوعي اللبناني واللبناني، فليست إلا فروعاً على هذا الأصل الثابت والراسخ. وليس التحديث الإجتماعي والسياسي، والمجتمع المدني، والتحرير، و"الثقافة والعلم والمعرفة"، و"التطور الإقتصادي"، و"النهضة العربية الجديدة"، و"العولمة"، و"الوعي"، وغيرها على شاكلتها، إلا أضداد الطائفية وصورها اللبنانية الكثيرة.
وهذا المثال الذي تجري عليه روايات التاريخ "التقدمية"، وتستلهمه حبكتها، فقير، وقليل الموارد، وعاجز عن تأويل الحوادث اللبنانية، وملابستها حوادث الجوار العربي ودوائره، وعن وصفها. فإذا تناول "المؤرخ" - وهو في هذا المعرض من يتدبر تعلق بعض الحوادث بعضها ببعض - نازع الشيوعيين التحديثي والديموقراطي، على ما ينسبون إلى أنفسهم، اضطر إلى الإقرار بدَيْنهم بهذا النازع، على قدر ثبوته وحيث يثبت، إما إلى الجماعات المسيحية اللبنانية، وكانت نشأتهم الأولى بينها، أو إلى القنوات الفرنسية الإنتدابية، الإستعمارية الإمبريالية، على قولهم.
وترتب على هذه الحال، أي على دخول التحديث تحت باب السيطرة الإستعمارية والوشيجة الطائفية، التباس جوهري داخَلَ العلاقات الإجتماعية والسياسية والثقافية، ولم يعف عن أي وجه من وجوهها. فإذا مال الوطنيون والمحليون إلى المحدثات الإستعمارية الوافدة، وهي كثيرة وتترجح بين القيافة والسكن وبين مسالك العبارة ومباني الدولة والسياسة، انقطعوا من تقاليدهم وتراثهم، وأضعفوا مقاومة المتسلط والفاتح الأجنبي والغريب. وإذا تمسك الوطنيون والمحليون بالتراث المتحدر إليهم من سلفهم وآبائهم عجزوا عن مقاتلة المتسلط، وسلَّطوا عليهم من ظهر ضعفه عن المقاومة، ولم يبلِ لا البلاء الحسن ولا القبيح. وعلى رغم بعض التجديد الذي تولاه بعض أهل التقليد، من سلفية وصوفية، أقامت المجتمعات الوطنية والمحلية على ترجحها ووقوفها.
وتصدى "مقال الإمبريالية" أو "خطابها"، والشيوعيون بعض حَمَلة وجهه السياسي، لتخليص الالتباس. فزعم أن مقاومة السيطرة الإمبريالية لا بد من أن تجمع جنباً إلى جنب، كل الجماعات والفئات والعناصر، التقليدية والمحدثة، على التحرر من تسلطٍ يقهر، على حد واحد وسواء، الذين ينتسبون إلى تاريخ سبق الفتوح الإستعمارية، والذين وُلدوا، اجتماعاً وثقافة، من هذه الفتوح. وعلى هذا توقعت الأحزاب الشيوعية، ومعها "التقدميون" على اختلاف مشاربهم، نشأة "جبهة" متراصة توحد "الرجعيين"، وهم الذين دمرت الرأسمالية الوافدة علاقاتهم ولحماتهم وأفكارهم، و"التقدميين"، وهم الذين حملتهم الرأسمالية نفسها على طلب الإستقلال بمواردهم الجديدة والشحيحة وتثميرها في مرافق أوطانهم ودولهم، وبمنأى من التقاسم والتعسف الأجنبيين. وما زالت، إلى اليوم، الدعوة إلى "الجبهة" الواحدة عمدة السياسة الشيوعية و"التقدمية"، وعمود شعرها ونثرها، على ما يقرأ قارئ خطبة رأس الحزب.
وخاض الحزب الشيوعي اللبناني غمار ثلاثة أرباع القرن من تاريخ لبنان "الكبير"، لبنان الدولة اللبنانية التي خلفت الولايات والسناجق والإيالات العثمانية، على هدي هذا المثال، وهذا المقال. ولم ينتبه - أو هو كتم انتباهه ونتائجه - إلى أن تنافر أبعاض جبهته المفترضة وأجزائها يفوق بكثير تجانسها. فإذا كان التحديث بغية الشيوعيين، وهم بدورهم كثرة وأبعاض وأجزاء على خلاف حسبانهم، فالأقدر على القيام بتبعاته إنما هو التسلط الإمبريالي والجماعات التي بكرت في الأخذ ببعض أسباب مدنيته وبربريته. وقد يحمل هذا الشيوعيين على انتهاج سياسة معقدة تجمع المهادنة إلى المعارضة، فتضيع ملامح سياستهم وقسماتها، ويخسرون الأنصار من غير أن يكسبوا المترددين. وهم ليسوا الأقدر على الاضطلاع بمثل هذا النهج. فالكتائبيون اللبنانيون، ومعهم الدستوريون، من وجه، وبعض النخب الأهلية المسلمة، من وجه آخر، أقوى على الاضطلاع به منهم. وإلى هذا الأمر، يخالف انتهاج مثل هذه السياسة "مقال الإمبريالية" الرسمي، وهو جماع "فكر" الأممية الثالثة، والنخب "التقدمية" من بعدها، إلى يومنا هذا.
ولكن المركَّب التاريخي المأمول من استظلال لواء المقاومة الجامع لم يبصر النور. وعندما تصدت دول وطنية ومحلية قادرة لمثل هذا التركيب، أو زعمت التصدي له على شاكلة الناصرية و"البعث" واشتراكيي اليمن الجنوبي و"الجبهة" الجزائرية، مالت ميلاً قوياً إلى المباني الإجتماعية والثقافية والسياسية التقليدية، وماشت دواعيها وبواعثها، وبعثتها من جديد. فجاءت مناهج الدول الوطنية والمحلية، وليس أفكارها ومقالاتها وحسب، استئنافاً للروابط العصبية وللقيم والمعايير الأهلية والتقليدية. فاحتذت الرابطة الوطنية على مثال رابطة القوم الدموية والقرابية، وانتهكت مراتب العصب والملة مساواة المواطِنية وحقوقيتها القانونية، وتقدمت لحمة الأهل على مبنى الدولة، وحالت الثقافة الأهلية دون استقبال الثقافات الغريبة والتوليد المتبادل. ولم يقاوم الشيوعيون، ولا قاوم "التقدميون" واليساريون، الميل الجارف هذا. وكان "مقال الإمبريالية" مرشدهم الضرير إلى أفولهم. وهم كانوا حسبوا، وما زال فيهم من يحسب، أن تصدرهم الحروب الملبننة، إلى جنب المنظمات الفلسطينية المسلحة، الخطوة الثابتة، بعد الخطوة اليمنية الجنوبية، إلى الإستيلاء على السلطة في ختام حرب تحرير قومية عربية وشعبية. وبدت لهم "الجبهة" العتيدة متحققة. فلم يفهموا لماذا انقلب عليهم شيعة "أمل"، قبل مسلمي "التوحيد" الطرابلسيين وشيعة "حزب الله"" ولماذا ابتدأ خميني، بإيران، بهم وبأكراد كردستان إيران قبل أن يلفظ محمد رضا بهلوي أنفاسه" وهم لم يعقلوا، من قبل، لا اعتقالات عبدالناصر، ولا تعقب صدام حسين، ولا حصار حزب "البعث" السوري لهم في "جبهة" مكبلة.
ذلك أن المركب الحداثوي مشكل فوق ما يحدس موظفو الثورة و"عمالها". فالإنتسابُ الحزبي - الطوعي والفرعي والصادر عن اجتهاد الرأي -، والإنتساب النقابي - المتصل بفَرْق المصالح والمنافع، والباني على هذا الفرق لحمة حقوقية ثابتة -، ومباشرةُ المجتمع كلاً من جهة السياسة، ومن جهة إدراج هيئة المجتمع في حلقات زمن داخلي، هذا كله يشترط ظهوره، ولو على نحو متلعثم، ضعف الروابط القرابية والعصبية، وملابسة النوازع الفردية العلاقات الأهلية ولو في المحل الثاني، على قدر ما يفترض تزميناً الصدور عن الزمن والتاريخ - أي "دهرية" وتاريخانية دابَّاً. وهذا ما امتنعت جماعات المسلمين منه وقتاً طويلاً. والتسليم للمجتمع، وللجماعات الأهلية، بالنهوض بأمور مثل التعليم الخاص والتثمير في غير التجارة والصحة، أدار الظهر للتعويل على "الدولة"، وهذه كانت عثمانية منذ أربعة قرون" وكانت "خلافةً" على هذا القدر أو ذاك" وكانت "علية" في كل أحوالها.
أما إدراج "النفس" السياسية، على شاكلة كيان وطني ودولة تتمتع بالسيادة والإستقلال، في مجتمع دول، فليس، قطعاً، من بنات أفكار يوسف ابراهيم يزبك وفؤاد الشمالي، وهما من آباء الحزب الشيوعي اللبناني. وعلى هذا فما اختص به الحزب الشيوعي اللبناني، ومصدر اختصاصه شيوعيته وليس لبنانيته، إنما هو الصورة البلشفية واللينينية للحزب السياسي. وكانت هذه الصورة ارتكاساً ثقيلاً عن الحزب السياسي على صورته الليبرالية، أو حتى عن رابطة الوجهاء المحلية، وتخلفاً عن هذه وتلك. وحين يحاول جاك كولان مؤرخ الحزب الشيوعي اللبناني، الفرنسي وَصْلَ النقابات الشيوعية بطوائف الحرف البلدية، وحملها عليها، سعياً في توطين النقابات و"تبليدها" ودفع تهمة الإقحام عنها، يغفل المؤرخ الفرنسي عن اختلاف الأنماط والعلاقات الإجتماعية، ويطمس منازعاتها وشقاقها، ويأمل في ولادة حداثة من غير ألم ولا انقطاع. وهذا قرينة، متأخرة زمناً ربما، عن حرج الشيوعيين اللبنانيين، وربما الشيوعيين العرب ومعهم المثقفون المحدثون كلهم، وهم يدخلون باب الحداثة، أو أبوابها: الطائفية والوطنية "القطرية" والإستعمارية والرأسمالية.
وعلى رغم العقود الثلاثة التي قضاها الشيوعيون اللبنانيون في أحضان الحداثة هذه وهي على شاكلة الأبواب، وهم قضوها مرغمين ومن غير إسهام ولو ضعيف فيها، تخلوا عنها، وتنصلوا منها. والحق أن بعض السبب في تخليهم وتنصلهم، أي الكارثة الفلسطينية، يفوق طاقتهم، وطاقات كل من كان في مثل حالهم، أضعافاً مضاعفة. فالمسألة الفلسطينية وسمت الحداثة المتعثرة والمترنحة بميسم عدواني من العسير تخليصها منه. وكانت الردود على الميسم هذا نكوصاً عاماً إلى العلاقات والصور الأهلية: فغلبت الحركاتُ القومية الأحزابَ الوطنية، وتقدمت "الإمبراطوريةُ" الهلامية الدولةَ وأبنيتها، ومزقت العصبيات الإقليمية والدولية الأنسجة الثقافية والإجتماعية الداخلية. فتداعت الرابطة السياسية الوطنية تحت وطأة حركات التوحيد القومي والتحرر من الإمبريالية - على الصورة التي استوت عليها هذه الحركات، وإنكارها التفريقَ بين الدولة والمجتمع، وفرقَ المصالح، والفرديةَ، والأشكالَ الحقوقية، والتسليمَ للمجتمع بالنهوض بمرافق عامة.
ومشى الشيوعيون اللبنانيون في ركب هذا التداعي. وتوجوا مشيهم هذا بإسهامهم النشط في تسويغ الحروب الداخلية الملبننة، وتمهيد الطريق إليها، وفي صوغ مقالاتها. فانطلى عليهم حملها على الطائفية. وعمَوْا عن طائفية أصحاب هذه المقالة، وتنصلهم من تبعات الحداثة السياسية والإجتماعية كلها، وأولها الدولة الديموقراطية وثقافتها المواطنية، على ما يظهر جلياً في "دول" أصحاب هذه المقالة وأنظمة حكمهم. وانقياد الشيوعيين إلى سياساتهم، الأهلية، كان، في شطر منه، استتماماً لمثال العلاقة بين الحزب وبين خارجه، ولمثال علاقاته الداخلية. فهو، في المثالين، "انقلابي" وأمري وذرائعي. فلم يخرج من "تجربته" السياسية والإجتماعية في العقود الطويلة المنصرمة، بفكرة واحدة ليست صدى باهتاً لما يقال ويكتب هنا أو هناك. ولم يرعَ مرة واحدة تبلور نازع تلقائي.
فحداثة الشيوعيين حداثة محاكاة زائفة سرعان ما تنصلت من تبعات الحداثة، الباهظة التكلفة والثقيلة الوطأة في مجتمعاتنا. وعندما يتناول الشيوعيون ماضيهم بالتأريخ، احتفالياً كان هذا التأريخ أم غير احتفالي، يسرعون إلى مديح الحال التي أودت بهم إلى حيث هم اليوم. فهم، في كل أحوالهم، مداحون بين يدي ممدوح يخالونه عظيماً. وممدوحهم هذا هو، اليوم، نفسهم التي يزعمون إنكارها والتخلص منها بالعودة إليها. أي أن الأهل غالبون.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.