منذ انطلاقها قبل اكثر من خمسة أعوام تبحث منظمة التجارة الدولية عن آلية مقبولة لضم الدول النامية الى عضويتها، الا انها فشلت في ذلك لأسباب عدة. وهذا المأزق الذي وضعت المنظمة نفسها فيه متواصل ذاتياً، لأنها تضم في عضويتها كل الدول الصناعية. ولأنها تمثل مصالح الدول الصناعية فإن سياساتها تتعارض مبدئياً مع مصالح الدول النامية. فكيف تخرج، اذن، من هذه الحلقة المفرغة؟ ليس هناك طريق ثالث امامها فإما ان تفتح عضويتها بشروط معقولة لكل دول العالم، وهذا يعني اعادة صياغة ميثاقها بما يتلاءم والوضع الجديد، او ان تبقى كما هي: منتدى للدول الصناعية وتوابعها من الدول النامية ونصف الصناعية. وكلا الخيارين لا يروقان للدول الصناعية التي تريد ان "تبقي على الكعكة وتأكلها في الوقت نفسه" كما يقول المثل الانكليزي. لم يكن الوضع التجاري ملائماً للدول النامية منذ جولة اوروغواي الأولى في ظل منظمة "غات" السابقة، اذ اصبحت منتجات الدول النامية هدفاً لتعرفات ورسوم وقيود ثقيلة من الدول الصناعية. فبحجة الحفاظ على البيئة أُثقل كاهل المحروقات بالتعرفات والضرائب، وبحجة سوء معاملة العمال وعمالة الاطفال قوطع عدد من السلع، وبسبب تدعيم الأمن الغذائي اغلقت الأبواب في وجه المنتجات الزراعية القادمة من العام النامي، بما في ذلك الدول الاعضاء في المنظمة. لا احد ينكر ان القضايا المطروحة أعلاه، وهي حماية البيئة وسوء معاملة العمال وتدعيم الأمن الغذائي مهمة وجديرة بالاهتمام من الناحية الاخلاقية، الا ان هناك مجالات اخرى افضل للتعامل معها بما يضمن حلها على الأمد البعيد. فعلى سبيل المثال تعادل أسعار المنتجات الزراعية الاوروبية ضعف اسعارها في السوق العالمية بسبب المساعدات السخية التي تقدمها أوروبا الى المزارعين بهدف تأمين الغذاء للقارة في الحالات الطارئة كالحروب. غير ان هذه السياسة غير صائبة باعتراف الاوروبيين انفسهم، وأصبحت عبئاً على الاتحاد بدل ان تكون عوناً له. وليس هذا فحسب، بل اصبح الاتحاد الاوروبي مضطراً إلى فرض تعرفات ورسوم وقيود على المنتجات الزراعية المستوردة من الخارج بهدف حماية اسعار منتجاته الزراعية والحيوانية التي اصبحت تنتج لا لهدف سوى الانتاج نفسه. وأخذ الأوروبيون يرمزون الى هذا الافراط المكلف في الانتاج بجبل الزبد وبحيرة الخمر بسبب عدم جدوى هذا الانتاج. وهذا العمل ليس منافياً للأسس التي قامت عليها منظمة التجارة الدولية فحسب، بل لا يخدم المستهلك ودافع الضرائب الاوروبي الذي اصبح مكبلاً بهذه الأعباء التي اعدت لزمن الطوارئ. ولم يحاول الاتحاد الاوروبي طيلة الأعوام الخمسين التي تلت الحرب العالمية الثانية اصلاح سياسته الزراعية المشتركة على رغم تغير الظروف، بل ظلت حكوماته اسيرة مجموعات الضغط واللوبي الزراعي الذي يريد استمرار المساعدات المقدمة للمزارعين "الفقراء". واستمرار هذه السياسة ليس في مصلحة الدول النامية التي تتفوق في مجال المنتجات الزراعية، لذلك فان اية محاولة لاشراك الدول النامية في منظمة التجارة الدولية اشراكاً حقيقياً لن يكتب لها النجاح الا باصلاح جذري لهذه السياسة. اما الدول غير الاعضاء فلن تنضم الا اذا رأت مصلحة حقيقية في العضوية. اما في ما يتعلق بالبيئة وحمايتها فان ذلك يجب ان يقع على عاتق الدول الصناعية بالدرجة الاولى، اذ انها هي التي لوثت البيئة بمصانعها واستهلاكها المفرط للطاقة خلال القرنين الماضيين وجنت من خلال ذلك الاموال الطائلة التي تتمتع بها الآن، لذلك فان مسؤولية تنقية البيئة وحمايتها يجب ان تقع على هذه الدول قبل غيرها. لكن الدول الصناعية، وعبر آليات منظمة التجارة الدولية، تسعى الى تحميل البلدان النامية المصدرة للمواد الخام هذه المسؤولية من خلال فرض ضرائب غير متكافئة على النفط والمحروقات. وهذه السياسة هي الاخرى غير مجدية في تفعيل دور الدول النامية في منظمة التجارة الدولية او كسب غير الاعضاء اليها. اذ كيف يُطلب الى منتجي النفط ان يساهموا في تقليص ايراداتهم وتحجيم النمو الاقتصادي وخفض المستوى المعيشي في بلدانهم؟ لذلك فان منظمة التجارة الدولية، ومن خلفها الدول الصناعية، اذا ارادت اشراك الدول النامية في المفاوضات التجارية في المنظمة، فإن عليها ان تأخذ في الاعتبار مصالح هذه الدول التي تعتمد على تصدير النفط الخام والمواد البتروكيماوية، وهذا يعني التخلي عن هذه السياسة أو احداث تغيير جذري فيها. حماية البيئة قضية مهمة ومن الحكمة اتباع سياسة جادة لإزالة او تخفيف التلوث تشارك فيها كل دول العالم وخصوصاً الدول الصناعية التي تسببت مصانعها ومكائنها في تلويث البيئة. ولأن البيئة ملك للجميع ومن ثم حمايتها مسؤولية الجميع فإن الدول النامية هي الاخرى مطالبة بمتابعة هذا الموضوع مع الدول الصناعية للتوصل الى صيغة عملية ومقبولة للجميع. وهناك عدد من المسائل الاخرى التي يجب ان تحل من قبل الدول الصناعية ان هي أرادت فعلاً اشراك الدول النامية في المفاوضات التجارية العالمية، منها على سبيل المثال التعامل بمرونة مع قضايا الملكية الفكرية والاجراءات المضادة للإغراق. فالولاياتالمتحدة على سبيل المثال تطارد الدول النامية بشراسة في هذه المجالات على وجه الخصوص، وتشترط التزاماً صارماً بالقوانين الدولية المتعلقة بهذه المجالات للدول المتقدمة لعضوية منظمة التجارة الدولية قبل النظر في عضويتها. مرة اخرى، ليس هناك من يعترض على ضرورة التزام القوانين التجارية الدولية لأن ذلك في مصلحة الجميع، لكن بعض الدول النامية لا يمتلك الآليات اللازمة لتنفيذ قانون الملكية الفكرية مثلاً، لذلك فهو تحتاج الى المزيد من الوقت. اما قضايا الإغراق فهي مسائل يصعب اثباتها وعادة ما تستخدم كذريعة للتحايل على قوانين المنافسة. فعندما يرى أحد البلدان الصناعية ان هناك منتجات وسلعاً مماثلة لمنتجاته ولكن بسعر منخفض تهدد حصته في السوق، فانه يتهم البلد الآخر بالإغراق. وليس خافياً ان البلدان النامية تنتج المنتجات الزراعية والمواد الخام بتكاليف أقل وهذا يمكنها من بيعها بثمن اقل من مثيلاتها المنتجة في البلدان الصناعية، فأين الاغراق في ذلك؟ نعم يلجأ بعض البلدان الى تقديم الدعم الى المنتجات المعدة للتصدير وهذا يحدث في الدول الصناعية ايضا، كتقديم التسهيلات الضريبية لبعض المنتجات في بعض المناطق، وهو لا يشكل خرقاً لقوانين الإغراق. الإغراق يحدث فقط اذا حاول بلد ما ان يخفض منتجاته بقصد الاضرار بمنتجات البلد الآخر المنافسة لمنتجاته بهدف تحقيق مكاسب مستقبلية كزيادة حصته من السوق مثلاً. حرب الموز ان التجارة الحرة تعرضت للعديد من التراجعات والعقبات التي وضعت في طريقها من قبل الدول الصناعية نفسها، اذ رأينا حرب الموز بين الاتحاد الاوروبي والولاياتالمتحدة، وهناك ايضاً الخلافات الدائرة حول المنتجات الغذائية المحفّزة جينياً، والخلافات حول تجارة الفولاذ وغيرها، وكل هذه الخلافات بين البلدان الصناعية نفسها. بالطبع لا احد يطمح الى عالم يخلو من الخلافات التجارية، لكن تجاوز قوانين التجارة الحرة التي تبلورت عبر اعوام من المفاوضات لا يمكن اعتباره الا تراجعاً للتجارة الحرة، وهذا ليس في مصلحة الجميع. فاذا اريد لمنظمة التجارة الدولية، وهي تستعد لعقد مؤتمرها الوزاري في كانون الاول ديسمبر المقبل في سياتل في الولاياتالمتحدة، ان تكون فعالة على المستوى العالمي لا بد ان تشترك كل دول العالم في صنع القرار في المنظمة، بما في ذلك قوانين العضوية. وهذا يتطلب قيام الدول الصناعية نفسها بتنفيذ ما وقعت عليه سابقاً وهو رفع القيود والتعرفات في وجه التجارة الدولية، ليس فقط بين الدول الصناعية وداخل الكتلة الاقليمية فحسب، بل امام منتجات الدول النامية من المنتجات الزراعية والمواد الخام ونصف المصنعة. وبهدف تنفيذ ذلك لا بد من جولة جديدة للدول الصناعية لتعزيز صدقيتها المهلهلة بين دول العالم النامي. * كاتب اقتصادي عراقي مقيم في لندن.