قبل ذلك بأقل من عشرة أعوام كان مصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد والوريث الرسمي والشرعي لسعد زغلول، فقد جزءاً كبيراً من شعبيته الكبيرة ومن شعبية حزبه في مصر، بسبب وصوله الى الحكم عن طريق الدبابات البريطانية، وبشكل جعل الانكليز يضعون أنفسهم في مجابهة مع الملك فاروق، الذي كان - كما يبدو - بدأ يعتقد بانتصار المحور، وحلول المانيا محل الانكليز، فراح يتخذ من المواقف، السرية والعلنية ضد هؤلاء، ما أكسبه شعبية كبيرة، أغضبت الانكليز فلعبوا لعبتهم المزدوجة، التي كسرت كلمة الملك في نفس الوقت الذي وجهت فيه ضربة قاصمة الى حزب الوفد: فرضوا مصطفى النحاس رئيساً للحكومة، وقبل هذا الأخير أن يلعب اللعبة، فحل في ذلك المنصب، لكنه اكتسب عداء الشارع له. طوال السنوات التي تلت ذلك، ظل مصطفى النحاس سواء أكان داخل الحكم أو خارجه يعتبر من قبل الرأي العام، واحداً من رجال الانكليز في البلاد، بعد أن كانت سمعة حزب الوفد والنحاس بالتالي تقوم على العداء للانكليز ومحاولة ابعادهم عن مصر. والملفت أن الوفد اعتاد خلال تلك الفترة ان يهادن الانكليز حين يكون في الحكم وأن يجابههم حين يكون خارج الحكم فقط، غير أن تلك المجابهة - على قلة مناسباتها - لم تعد الى "الوفد" ولا الى النحاس شعبيتهما القديمة. ولكن في الثامن من تشرين الأول اكتوبر 1951، حدث ما هو مختلف تماماً عن ذلك: كان مصطفى النحاس في الحكم، هذه المرة، منذ أوائل العام الفائت، وكان الانكليز محكمين قبضتهم على البلاد. وكان على هذين الطرفين أن يتحالفا بشكل وثيق في ما بينهما لكي يجابها "عدواً مشتركاً" كان بدأ يبرز في ساحة العمل الوطني. ليس هذه المرة على شكل مقاومة سلبية عامة، أو مقاومة هجومية مجزأة، بل على شكل مناخ عام كان من الواضح أنه سيجرّ معه على مصر تغييراً راديكالياً في القريب العاجل. صحيح أن حزب الوفد كان - ودائماً بزعامة مصطفى النحاس - قد عاد الى الحكم بعد فوز ساحق في الانتخابات النيابية أعطاه ثلثي الأصوات، لكن النحاس كان يعرف أن عليه، الآن، أن يقوم بخطوة استعراضية ضخمة لكي يحول ذلك الانتصار الانتخابي الى شعبية كاسحة مستعادة، تمكن حزبه من البقاء في وجه العواصف المقبلة. وهكذا قرر في ذلك اليوم أن يلعب "الورقة الوطنية"، على حد تعبير مؤرخي تلك المرحلة، مدفوعاً الى ذلك بفعل ضغوطات "قاعدة وفدية كانت بدأت تعي تنامي الاستياء العام في البلاد" وتعتبر نفسها أمينة لتراث وطني عريق لا بد الآن من الحفاظ عليه واستغلاله. وكانت اللعبة تقوم في جعل البرلمان، الوفدي في غالبية اعضائه، يصوت على الغاء المعاهدة الانكليزية - المصرية المعقودة في العام 1936. وكان الغاء تلك المعاهدة في ذلك الحين واحداً من المطالب الوطنية الشعبية في مصر. والجدير ذكره هنا هو أن مصطفى النحاس كان هو الذي وقع المعاهدة، عن الجانب المصري، قبل ذلك بخمسة عشر عاماً. وفي الوقت نفسه صوت البرلمان على الغاء المواثيق الموقعة بين مصر وبريطانيا في العام 1899، والتي كانت تنص على سيطرة القاهرة ولندن المشتركة على السودان. وبفعل ذلك الالغاء المزدوج أصبح الوجود العسكري البريطاني في مصر أمراً غير شرعي. وعلى هذا النحو تمكن مصطفى النحاس من أن يلغي، ولكن من طرف واحد وبفعل تصويت برلماني ديموقراطي، معاهدة ومواثيق لم يكن الشعب المصري قد توقف عن المطالبة بالغائها منذ زمن بعيد. وهو، في الوقت نفسه، دفع البرلمان - تبعاً لذلك - الى اعلان الملك فاروق ملكاً لمصر والسودان. على الفور جن جنون الانكليز الذين سيقال انهم لم يتوقعوا مثل ذلك التصرف من رجل أوصلوه الى الحكم على "أسنّة الحراب". وهم أوعزوا الى حلفائهم الأميركيين والفرنسيين، وكذلك الى الأتراك برفض الاعتراف بشرعية القرار المصري. وبالنسبة الى القوات الانكليزية التي كانت في ذلك الحين ترابط، خاصة، عند منطقة قناة السويس، سارعت الى اتخاذ الاجراءات العسكرية اللازمة لخشيتها من أن يؤدي ذلك كله الى أعمال عنف جديدة ومتجددة. في الثالث عشر من الشهر نفسه، اقترح الغربيون على القاهرة، كحل وسط، أن تنضم الى مشروع القيادة العليا للحلفاء في الشرق الأوسط. لكن القيادة المصرية رفضت ذلك على الفور، واتبعت رفضها بمطالبة الانكليز بالجلاء عن منطقة القناة نفسها. وهو ما رفضه الانكليز في ذلك الحين. وكان ذلك كله المقدمة التي أدت الى استعار حرب عصابات حقيقية ضد البريطانيين ستتواصل حتى حريق القاهرة، وبعد ذلك حتى قيام ثورة تموز يوليو من العام التالي 1952. الصورة: مصطفى النحاس يعلن الغاء مصر للاتفاقية