في الساعة الثامنة من مساء الثلاثين من تشرين الأول اكتوبر 1918، وقع اتفاق هدنة بين حكومة لندن والقادة العثمانيين، كان معناه الاساسي زوال الامبراطورية العثمانية. ومن ناحية ثانية تكشف لنا وقائع "المفاوضات" التي دارت في مودروس، على متن السفينة الحربية البريطانية "اغاممنون" مدى الإذلال الذي أصر الجانب البريطاني على إلحاقه بالسلطات العثمانية في تلك المناسبة. فمن ناحية كان وسيط التفاوض بين الجانبين هو الجنرال تشارلز تاورنزهند، الذي كان العثمانيون قد اسروه في العراق في موقعة كوت العمارة، ومن ناحية ثانية كان من الواضح ان اختيار سفينة حربية تحمل اسم وجه اغريقي عريق فيه ما فيه من الدلالة. غير ان هذا كله كان من ناحية الشكل. اما من ناحية المضمون فكان الأمر أدهى. فمنذ البداية ابدى الزعماء العثمانيون تلهفاً على وقف الصراع مهما كلف ذلك. وفي الرابع والعشرين من تشرين الأول اكتوبر ذاك أبلغ البريطانيون العثمانيين أنهم على استعداد للتفاوض، وانهم قد عينوا الاميرال كالثورب، رئيساً لوفدهم التفاوضي. في المقابل عينت حكومة أحمد عزت باشا العثمانية حسين رؤوف، وزير الشؤون البحرية مفاوضاً عنها، وذلك ضد ارادة السلطان وحيدالدين الذي كان يريد ان يرى صهره الداماد فريد على رأس الوفد العثماني المفاوض. اذن، وصل حسين رؤوف الى مودروس يوم 26 تشرين الأول والتقى من فوره الاميرال كالثورب. ومنذ لحظات اللقاء الأولى أراد رؤوف ان يطلع المفاوض البريطاني على الاقتراحات الثمانية التي يرتئي السلطان التفاوض على أساسها. وهنا كانت الحركة المسرحية الاساسية، اذ ان كالثورب أبلغ الاتراك الذين كانوا يعتقدون ان بنود اتفاق الهدنة سوف تصاغ بشكل مشترك، بأن الأمر ليس كذلك وان التفاوض سوف يجري انطلاقاً من مشروع جاء منه، ومعد بشكل مسبق، مؤكداً ان ثمة في هذا المشروع نقاطاً لا ينبغي تعديلها أو المس بها بأية حال من الاحوال. لم يجد حسين رؤوف أمامه إلا ان يبلغ حكومته في اسطنبول بتصلب الموقف البريطاني، مؤكداً على ان أي رفض عثماني لإرادة البريطانيين سوف تترتب عليه نتائج بالغة الخطورة. هنا حاولت السلطات العثمانية اللعب على عنصر الوقت، غير ان الاميرال كالثورب صرح صباح الثلاثين من تشرين الأول اكتوبر بأن صبر بريطانيا قد نفد، وانه يعطي الاتراك 21 ساعة لاغير، لكي يحددوا موقفهم، ويوقعوا الاتفاقية. على الفور أبلغ حسين رؤوف حكومته بذلك. لكن اسطنبول لم تكن واعية تماماً لما يحدث، كما يبدو، ناهيك بأن المداولات والسجالات في المجلس التمثيلي "كانت جوفاء صاخبة لا معنى لها" حسبما سيقول المؤرخون. وهكذا لم يعد ثمة من يمكنه ان يتخذ اي قرار. هنا لم يعد في إمكان حسين رؤوف الا ان يتخذ بنفسه القرار الذي رآه ملائماً من الناحية السياسية والميدانية، فوافق على مجمل بنود المشروع الذي حمله معه الاميرال كالثورب. وكان هذا المشروع ينص، بين ما ينص عليه، على تسريح فوري لكافة وحدات الجيش العثماني، تجميد عمل الاسطول الحربي التركي، الإبقاء على قوات اجنبية وحليفة في منطقة المضائق، اعطاء الانكليزي الحق في السيطرة على الموانئ والانفاق، والاستخدام الحر للسكك الحديدية وللسفن التجارية العثمانية. كل هذا كان من شأنه ان يلحق الذل بالعثمانيين. لكنه لم يكن شيئاً مقارنة مع المادة السابعة من الاتفاق التي أتى غموض عباراتها ليثير قلقاً ما بعده قلق، اذ ان تلك المادة أتت لتنص على ان أي محاولة عثمانية لإحداث خرق في أي اتفاق سوف يعطي الحلفاء قوى التفاهم الحق، في احتلال أي جزء من أجزاء الامبراطورية، يرون احتلاله ضرورياً لمصالحهم ويرّد على الخطوة العثمانية. وكان من الواضح ان هذه البنود تشكل استسلاماً كاملاً وكلياً، وان معنى الاتفاق بشكل عام، هو وضع نهاية لحياة تلك الامبراطورية التي كانت تسود في ذلك الجزء من العالم طوال اكثر من اربعمئة عام. وحسين رؤوف الصورة، اذ وجد نفسه مضطراً للتوقيع على اتفاقية من ذلك النوع، كان هو، في هذا المعنى، من حفر قبر الامبراطورية العثمانية بيده. لكنه سيقول دائماً ان الذنب ليس ذنبه، لأنه في تلك اللحظات العسيرة لم يجد من يصغي اليه في اسطنبول مؤكداً ان الأصوات التي ارتفعت بعد ذلك لانتقاده وتخوينه، كانت صامتة تماماً حين كان من الضروري لها ان تحتج وتفعل.