الحمّامات العربية التي يعرفها البعض باسم "الحمّامات التركية"، التي كانت منتشرة في الاقطار العربية والاسلامية في القرون الوسطى، والتي شهدت عصرها الذهبي في ظل الدولة العثمانية. ويقال ان السلطان مراد كان من اكبر مشجعي انتشارها، لتوفّر للعامة والفقراء مكاناً للاغتسال والتطهّر عملاً بالسنّة والقرآن. فالطهارة احدى الفضائل التي جاء بها الاسلام، وتوفيرها للفقراء كان دليلاً على ان البيوت كانت تضم حمّامات خاصة، وأن تلك الحمّامات العامة كانت لخدمة الفقراء وغير الميسورين. كانت تلك الحمّامات منتشرة في الأندلس العربية، وبدت كظاهرة عامة لم تكن موجودة في أوروبا في القرون الوسطى، وتحوّلت مع الزمن الى ظاهرة منتشرة في أوروبا من خلال تقليد الأندلس الإسلامية، والتي لا تزال بقاياها كحمّامات عامة يغتسل فيها الفقراء موجودة في بعض المدن الإسبانية المعاصرة، ولا سيّما العاصمة مدريد، التي لا تزال تضم اربعة من تلك الحمّامات بعضها مهدد بالإغلاق تحت ضغط الأزمة الاقتصادية. فبلدية المدينة ترى انها ضرورة مكلفة للمال العام رغم حاجة الفقراء اليها. مع مرور الزمن ودخول الحمّامات كل البيوت تقريباً، أصبحت ظاهرة الحمّامات العامة او الحمّامات العربية او التركية كما يسمّيها البعض الى ظاهرة معاصرة، لكنها تحوّلت من تقديم خدماتها الى الفقراء والعامة لتصبح ظاهرة طقسية في بعض البلاد، مثل المغرب التي تحوّلت فيها تلك الحمّامات الى جزء من طقوس "العرس"، حيث تقوم العروس بالاغتسال برفقة صديقاتها قبل ليلة الزفّة. وبعض تلك الحمّامات تحوّل الى ظاهرة سياحية، اذ تعرض خدماتها للسائحين كنوع من الإغراء السياحي، بعد ان طوّرت خدماتها ولم تبقَ مقصورة على الاغتسال والنظافة، ولكنها اصبحت مكاناً للاسترخاء للباحثين عن الراحة والرفاهية، وكذلك رجال الاعمال، وأيضاً من خلال تقديم خدمات جديدة على تلك الحمّامات مثل التدليك والتطبّب الطبيعي باستخدام الأعشاب الطبية وغيرها من دون اللجوء الى الادوية المهدّئة. اما في الأندلس فلم تعد تلك الحمّامات موجودة سوى بين المناطق الأثرية، التي لا تزال تحتفظ بالحمّامات العربية الأندلسية على هيئتها القديمة او بعد ترميمها، وتضم مدينة غرناطة عاصمة آخر الممالك العربية في الأندلس عدداً لا بأس به من تلك الحمّامات، التي تحوّلت الى مزار سياحي. لكن احد احفاد الاندلس العربية "خوسيه ماريا دي كوردوبه" الذي يعمل اختصاصياً نفسياً في بلدية غرناطة، لفت انتباهه ما شاهده خلال رحلاته السياحية في عدد من البلاد التي تضم الحمّامات المعاصرة في المغرب وتركيا، او رومانيا التي تضم عدداً كبيراً من تلك الحمّامات، فقرر العودة الى تاريخ الأندلس الإسلامية، وبدأ في قراءة ما كُتب عن تلك الحمّامات اضافة الى الكتابات الادبية التي تتحدث عنها او تتخذ منها مادة للكتابة. وبدأت فكرة استعادة الحمّامات العربية الى العمل في غرناطة تختمر في ذهنه لفترة طويلة، ثم وجد من شريكة حياته "ماريا خوسيه" تشجيعاً كبيراً لتحقيق تلك الفكرة، وبدأ في اقامة مشروعه بافتتاح اول حمّام عربي معاصر في غرناطة يقدم خدماته لأبناء غرناطة والسائحين الذين يزورون المدينة على حد سواء. قال خوسيه ماريا للحياة، ان فكرته واجهت صعوبات كثيرة من اجل تحقيقها كمشروع سياحي، أولها المال المطلوب لتنفيذ هذا المشروع المكلف، فهو يعمل موظفاً في بلدية غرناطة، ولا يملك المال الكافي للبدء في تحقيق ذلك المشروع الذي يعتبر من المشاريع الطويلة الأمد، والتي لا تحقق عائداً سريعاً مثل المشاريع الأخرى التي اصبحت ظاهرة العصر. العائق الثاني والمهم كان من جانب أسرته، التي توجّه اليها لتضمن قرضاً مصرفياً يمكنه من تحقيق تلك الفكرة او الحلم الذي كان يراوده، لكن أسرته وجدت في الفكرة نوعاً من الجنون، فقاطعته لفترة طويلة، ووصل الأمر الى حد ان افراد الأسرة رفضوا مجرد الحديث معه هاتفياً. لكن رفيقته ماريا خوسيه شجعته على المضي في تنفيذ مشروعه، وبعد ان أعدّ خطة المشروع، ودراسة جدواه الاقتصادية، ومدى فائدته المادية والسياحية، بعث بنسخ من ذلك المشروع الى العديد من الجهات الرسمية وبعض البنوك المحلية، وكانت المفاجأة ان قررت حكومة الأندلس المحلية ان تقدّم له قرضاً لا يردّ بقيمة 70 مليون بيزيتة نحو مئة الف دولار، وهو ما يساوي نحو نصف تكاليف المشروع حتى البدء في العمل. وقررت بلدية غرناطة ان تشجع المشروع بمبلغ رمزي يبلغ نحو سبعة ملايين بيزيتة، اضافة الى توفير التسهيلات المطلوبة بالنسبة للأوراق الرسمية الروتينية. وقرر احد المصارف ان يشجّع من خلال تقديم قرض ببقية تكاليف المشروع بفائدة صغيرة. من هنا بدأ خوسيه ماريا دي كوردوبه ورفيقته ماريا خوسيه في تنفيذ المشروع بعد ان حصلا على موافقة البلدية بترميم احد المباني القديمة التي تعود الى القرن السابع عشر داخل المنطقة الاثرية القديمة بالمدينة، وهي تقع تحت اسوار قصور الحمراء العربية الشهيرة. ثم وجد الأندلسي الحالم مهندسة معمارية متخصصة في ترميم المباني التي تعود الى العصور الوسطى، فوضعت له تصميماً بسيطاً لتنفيذ المشروع في شكله المطلوب كحمّام عربي قديم، من خلال استخدام الهيكل الخارجي للمبنى الأثري، مع اجراء تعديلات طفيفة على تركيبه الداخلي. وتم تزيين الجدران الداخلية للحمّام العربي الجديد بالموزاييك والأرابيسك العربي، مما يضفي عليه طابع القرون الوسطى. وتم تجهيز الحمّام للعمل فعلياً، وبدأ الشاب الأندلسي في الدعاية لمشروعه وسط تشجيع البعض ونظرات الإشفاق من فشل المشروع من البعض الآخر، الذين يرون فيه جنوناً حقيقياً، لكن المفاجأة كما يقول خوسيه ماريا ان مشروعه بدأ يلقى قبولاً كبيراً، وبدأت وسائل الاعلام المحلية تتابع نجاحه، هذا النجاح الذي شجع خوسيه ماريا ورفيقته ماريا خوسيه على التفكير في تطوير الحمّام العربي ليضم فندقاً صغيراً يلبّي حاجات الزبائن الباحثين عن الراحة بعد الخروج من الحمّام، اضافة الى مطعم يقدّم وجبات يتم اعدادها على الطريقة العربية القديمة حتى يكتمل المناخ المطلوب لهذا المشروع وهو يهدف الى استعادة الحياة الغرناطية في العهد الأندلسي.