لم يعد الأدب المقارن شائعاً في أدبنا الحديث كما كان شائعاً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي زمن محمد غنيمي هلال وسواه من الباحثين ولكن دراسة حديثة صدرت في بيروت عن المؤسسة العربية للتراث والنشر للباحث العراقي الدكتور عبدالواحد لؤلؤة تعيد هذا النوع من الدراسات الأدبية المقارنة إلى دائرة الضوء من جديد عنوان الدراسة (دور العرب في تطور الشعر الأوروبي) وفيها يكشف لؤلؤة عن أدوار مذهلة للعرب في تطور الآداب الأوروبية في العصر الوسيط تمت عبر البوابة الأندلسية التي كان الأوروبيون يلجون منها إلى ما يمكن ان نسميه اليوم «بالثقافة الحديثة» أو بالسوق الثقافي الأكثر معاصرة وحداثة في ذلك الوقت إذ كانت قرطبة وغرناطة وطليطلة وبقية حواضر الأندلس هي «باريس» أو «لندن» تلك الأيام. ولعل من أهم ما يكتشفه الباحث العراقي في دراسته هذه أثر العرب في ظهور الحب في شعر أوروبي في القرن الثاني عشر بشكل يختلف نسقاً وموضوعاً عما عرفته أوروبا في القرون الوسطى. وقد كان ظهور هذا الحب على النحو الذي سنفصله حافزاً لظهور العديد من الدراسات في الغرب تتساءل عن مصدر هذا الشعر الجديد بنيته ومحتواه وكيف تطور في عدد من البلاد الأوروبية وكيف أثر في نشوء أنماط جديدة من الشعر في أوروبا. يقف لؤلؤة وقفة مطولة عند كتابات العرب المشهورة في موضوع الحب ومنها كتاب (الزهرة) للأصفهاني وكتاب (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي الذي يعتبر أكمل كتاب في التراث العربي بل العالمي ينظر للحب مفهوماً وفلسفة ويبدو ان هذا الكتاب قد انتقل بطريقة من الطرق إلى راهب فرنسي، كان باحثاً في الوقت نفسه، اسمه اندرياس كابيلانوس ألف كتاباً حول الحب اتبع فيه أسلوب ابن حزم في التبويب والتقسيم والتعريف "نحن لا نعرف ان كان ذلك الراهب الفرنسي قد اطلع على "الطوق" الذي لم يكن في متناول شعراء بروفانس بنصه العربي على أغلب الظن كما أننا لا نعرف ان الكتاب نقل إلى اللاتينية أو أي لغة في متناول الشعراء التروبادور. ولكن لا يوجد كذلك ما يمنع من القول ان الآراء الواردة فيه كانت في جو شعراء ذلك الزمان في اقليم بروفنانس أو غيره فلم يكن من الضروري ان يفهم الشاعر البروفنسي دقائق القصيدة العربية أو الموشح في ما تعرض من آراء في الحب وأوصافه. بل ان أي اندلسي كان بوسعه ان يقدم ترجمة تقريبية لأي قصيدة أو موشح أعجب به شاعر بروفنسي والاندلسيون أصحاب لغتين: العربية والرومانثية. وهذا يفسر التشابه في بنية القصيدة البروفنسية ومعانيها وبين القصائد والمرشحات العربية السابقة على ظهور أول شاعر بروفنسي". آخر الشعر العربي الاندلسي في ظهور أول أمثلة الشعر الدنيوي في أوروبا القرون الوسطى حول مفهوم الحب ومنزلة المرأة هو ما يعنى به عبدالواحد لؤلؤة. يقول ان المراجع العربية التي تناولت مفهوم الحب عند ابن حزم ومن سبقه تشير إلى ان الحب يقع بين الرجل والمرأة بناء على المظهر الجسدي والأخلاق التي تبدو في جمالها للرجل بما يتفق مع جمال الوجه أو الجسم ومن صفات الحب في تلك المراجع العربية أنه يرفع من قدر الرجل ومنزلته بين الناس إذا هو أحب كما ان الحب يجعل من الرجل إنساناً ذليلاً في خدمة المحبوب في هيئة من التناقض الظاهر. أما المرأة فإن الشعر العربي الاندلسي بجذوره العذرية وما تطور عنها في العصر العباسي قد جعل منها معبودة أو قريباً من ذلك فهي مصدر السعادة للعاشق، وهذه مسألة جديدة كل الجد بالنسبة للموقف الكنسي والقروسطي في أوروبا، الذي بدأ في محاربة هذه الظواهر في الشعر الدنيوي الوليد في بدايات القرن الثاني عشر. وعندما ظهر كتاب الراهب الفنسي كابيلانوس لم تكن الكنيسة سعيدة بذلك الظهور الذي قدم الحب وفلسفته باللغة اللاتينية التي يفهمها المثقف الأوروبي إذا كان لا يفهم العربية ليقرأ ما كتبه ابن حزم عن الحب، فعاد بمقدوره أن يفهم ما يقوله كابيلانوس، وهو في غالبيته أقوال ابن حزم وتراثه العربي الأندلسي. يرى ذلك الراهب الفرنسي الكاثوليكي أن الحب العاطفي المشبوب قوة ترفع الإنسان إلى مستوى النبل، بل هو مصدر جميع فضائل الرجولة. وهذا الرأي حول الحب بين الرجل والمرأة لم يكن معروفاً في تراث الإغريق والرومان. فصورة الحب المشبوب في الآداب الأوروبية القديمة هي صورة عقوبة تنزلها السماء على البشر. إن استعراض أبرز الأعمال العربية التي عالجت موضوع الحب، فلسفة وتبويباً وتمثيلاً، مما سبق كتاب أندرياس كابيلانوس، يبيّن تشابهاً عجيباً بين تلك الأعمال وبين كتاب الراهب الفرنسي. وهذا يثير تساؤلاً مشروعاً إن كان ذلك الراهب قد اطلع فعلاً على تلك الأعمال العربية التي لا نعرف إن كانت قد ترجمت إلى اللاتينية، أو أنها قد فُسرت له، أو لخصها له من يعرف العربية في محيطه الكنسي. وهذا التساؤل الذي يدفع إليه هذا التشابه بين المصادر العربية وبين كتاب الراهب الفرنسي، يشبه التساؤل عن التشابه بين قصائد أوائل الشعراء التروبادور وبين الموشحات الأندلسية والأزجال السابقة على ظهور أول تروبادور بروفنسي، وهو غيوم التاسع الذي عاش بين عامي 1071 و1127. كتب ابن داود كتابه «الزهرة» عام 890 ببغداد، كما كتب ابن حزم كتابه «طوق الحمامة» في حدود 1028 بشاطبة الأندلسي. أما تاريخ رسالة في العشق لابن سينا (980/1037) فهو معاصر لابن حزم. وإذ يذكر ابن حزم كتاب «الزهرة» بإعجاب، وتاريخه يسبق أيام ابن حزم بحوالي قرن ونصف، كما يذكر كتاب «الحدايق» فلاشك أنه كان يعرف رسالة «في العشق» وكتابات ابن سينا معاصره. وهذه التواريخ تجعل الأعمال العربية التي تعالج فلسفة الحب وأوصافه، موجودة في الجو الثقافي الأندلسي الذي لا يعقل أن الراهب الفرنسي وغيره كثير كانوا غريبين عنه، إذا ما تذكرنا نشاط انتقاله الكتب والمخطوطات بين المشرق العربي وبين الأندلسي، أو بين حواضر الأندلس ومراكز الثقافة شمال جبال البيرانيس وشرقها، وإذا كنا لا نمتلك وثيقة موقعة، مصدّقة، مختومة، يعترف فيها شاعر أو مؤلف مسيحي قروسطي أو راهب فرنسي بأنه تعلم من أندلسي مسلم أو شاعر أو وشّاح، فإن النصوص هي التي تقوم مقام الوثائق المطلوبة لإثبات التأثر والتأثير! يرى أندرياس كابيلانوس أن الحب المشبوب بالعاطفة، «العنيف» وليس «العفيف» هو القوة التي ترفع الحب أو العاشق إلى منزلة «النبل». ويضيف أنه مصدر جميع فضائل الرجولة. هذا الحب بين الجنسين من البشر. وهذه فكرة لا وجود لها في تراث الإغريق أو الرومان الذي تقوم عليه الحضارة الأوروبية، كما يرى القروسطيون والأوروبيون عموماً. وعندما يخضع العاشق للمحبوبة فتغدو سيدة عليه يأتمر بأمرها، فإن ذلك يعطي المرأة دوراً ومنزلة لا عهد لأوروبا به قديماً أو حتى في العصور الوسطى. ولكن مفهوماً جديداً للحب ظهر في بدايات القرن الثاني عشر في جنوبفرنسا أدى إلى تغيير الموقف من المرأة وبخاصة بين أفراد الطبقة الارستقراطية امتد إلى الطبقات الفقيرة بعد ذلك. ومثل «صدر الرسالة» في «طوق الحمامة» يبدأ كتاب «فن الحب» للراهب الفرنسي بمقدمة. يخاطب ابن حزم صديقه الأثير الذي كتب له من «المريّة» قائلاً: «وكلفتني - أعزك الله - أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة».. ويقول الراهب الفرنسي في مقدمة كتابه: «أنا مدفوع بالإلحاح المستمر من صديقي المحترم «والتر» أن أفسّر بكلماتي وأعلّم بكتاباتي كيف يمكن الحفاظ على حالة حب بين محبين اثنين، وكيف يمكن لأولئك الذين ليسوا في حالة حب أن يتجنبوا سهام كيوبيد».. وفي كتاب الراهب الفرنسي أوجه شبه عديدة بين النهجين والمعاني والأفكار. ثمة مواقف وآراء جديدة عن الحب الدنيوي التي حملها الشعراء التروبادور بلغة بروفانس، نجدها في شعر جديد في أوروبا القروسطية، يدين للشعر العربي الأندلسي في مسار التطور والباحث العراقي الكبير الدكتور عبدالواحد لؤلؤة يفصّل كل ذلك في كتاب له صادر حديثاً في بيروت.