أعرف من متابعتي أرقام مبيعات "الحياة" ان قراءها الكرام لم يغادروا الوطن للسياحة في الخارج، بل فضلوا أن يصلوا لظى سَقَر في وطن لو شغلوا بالخلد عنه لنازعتهم نفوسهم إليه في الخلد، فهم يحبون حرارة في حدود 40 درجة مئوية في الظل، ولا ظل... وهكذا فقد انتدبت نفسي للسياحة نيابة عنهم، وهي مهمة قذرة ولكن يجب أن يوجد من يقوم بها كما قال توني كيرتس يوماً عن تقبيله مارلين مونرو في الفيلم "بعضهم يحبها ساخنة". وهل هناك "أقذر" من رحلة في يخت فخم تبدأ في جزيرة كابري، وتمر بالريفييرا الايطالية، ثم امارة موناكو، وتنتهي في الريفييرا الفرنسية؟ إذا صدق القارئ ما سبق، وهو سهل التصديق بعد أن طبخت الشمس دماغه، فهو سيبقى معي يومين أو ثلاثة في رحلة على هامش السياحة التقليدية، ملأى بأخبار الناس لا الأماكن فهذه يستطيع القارئ ان يجدها في أي نشرة سياحية. وهو، مثلاً، لن يجد في أي نشرة هذه النصيحة الثمينة التي تمثل عصارة تجربتي السياحية في عقدين، وهي: أفضل من أن يكون عندك يخت فخم، ان يكون عند صديق لك يخت فخم. وعندي اصدقاء يملكون قوارب فخمة تتراوح طولاً بين 20 متراً أو 30 متراً و80 متراً، واليخت من النوع الأخير هو في الواقع سفينة عابرة للمحيطات. والصديق الذي يملك اليخت يدفع ثمنه ويتحمل نفقاته، ومشاكل ادارته، ثم تأتي أنت ضيفاً مكرماً مسؤوليتك الوحيدة ان تخلع حذاءك قبل أن تدخل اليخت، ما يعني ان تحمل معك جوارب جديدة غير مثقوبة. وهكذا كان، وطرنا الى نابولي، ووصلت حقائبي معي بالصدفة، بعد أن زارت بلدانا أكثر مما فعلت. وانتقلنا الى جزيرة كابري حيث كان اليخت بالانتظار. نابولي مدينة مرفأ وتجارة، ومع ذلك فهي ملأى بتلك الآثار التي لا تخلو مدينة ايطالية منها. غير أنني وعدت القارئ ان أجنبه مشقة حديث النشرات السياحية، فأكتفي بالقول انني زرت نابولي للمرة الأولى في الستينات، وسمعت فيها اغنية كانت مشهورة تقول "نابولي فرمشيا أي صيدلية" والمقصود ان الأسعار فيها مرتفعة كما نقول في لبنان "فرمشية" تعبيراً عن غلاء يصل الى أسعار الأدوية. قلت للسائق الذي أخذني من المطار الى الميناء هل يعرف أغنية "نابولي فرمشيا" ووجدت انه لم يسمع بها. وحاولت ان ادندن له المقطع الأول منها، كما أذكره، فاعتقد انني مجنون، وأصبحت عين له على الطريق وعين في المرآة عليّ، وكأنه يخشى أن أغمد خنجراً في ظهره. ووصلنا الى الميناء بمعجزة، وأخذت من هناك قارباً اسمه بالانكليزية "هايدروفويل"، له ما يشبه جناحين يرفعانه قليلاً عن الماء فيقل الاحتكاك وتزيد السرعة. ووصلنا الى الجزيرة في أقل من ساعة. كابري جزيرة - صخرة، أو هي صخرتان متلاصقتان في واحدة منهما مدينة كابري، وفي الأخرى مدينة أنا كابري، وفي الاثنتين ذلك الذوق الايطالي الرفيع، في المباني والمتاجر، والحدائق العامة والخاصة، ومع كل هذا جمال الطبيعة. واللبناني مثلنا الذي فاخر دائماً بصخرة الروشة سيصاب بمركب نقص وهو يرى صخرة مثلها في كابري تفوقها حجماً بضع مرات، مع ارتفاع الشاطئ الصخري في مقابلها 700 متر بشكل عمودي مقابل أقل من مئة متر في رأس بيروت. وكابري جزيرة الملوك من اغسطس وتبيريوس في القرن الميلادي الأول، الى الملك فاروق هذا القرن، ويبدو ان الجزيرة اهملت زمناً، ثم أعاد اكتشاف جمالها في القرن الماضي الدكتور اكسل مونتي، وهو طبيب سويدي شجع الأسرة المالكة السويدية على زيارة الجزيرة، ثم بنى فيلا مشهورة، وكتب تاريخ الآثار الكثيرة في المنطقة. ومع انني زرت الجزيرة خمس مرات أو ست حتى الآن، فقد رأيت فيلا سانت مايكل للمرة الأولى هذا الصيف. والواقع ان الجزيرة، على صغرها، حافلة بما يستحق الزيارة مثل المغارة الزرقاء التي يمكن أن يعود اليها الزائر سنة بعد سنة، وفيلا كروب ومبنى سانت جيمس وغيرها. بل انني اعتبر ساحة مدينة كابري، حيث يلتقي السياح من زوايا العالم الأربع معلماً سياحياً يستحق الزيارة. غير أنني أترك هذا كله للقارئ السائح ليكتشفه وحده، واكمل بالحواديت كما وعدته، فكابري تضم عدداً من الفنادق الضخمة، وفي مقهى الرصيف أمام أفخمها فوجئت بصديق عربي من لندن، كانت مفاجئتي به مضاعفة، لأنني وجدته مع زوجته، بل كان يمسك يدها، فهو من النوع المدجّن الانيس الذي يجعل بقية الأزواج يبدون أشراراً أو أشقياء. وكنا نتحدث عندما وصلت مجموعة أخرى من الأصدقاء يقومون برحلة مماثلة على متن واحد من أجمل اليخوت في البحر الأبيض المتوسط. ودار حديث وسط العناق والقبل، ما ذكرني مرة أخرى بصدق المثل "الجنة بلا ناس ما بتنداس"، فكل جمال كابري لا يعادل فرحة لقاء ناس تحبهم، خصوصاً صدفة وفي مكان غير متوقع. اليوم، أنصح كل قارئ قادر ان يزور كابري، وأن يأخذ أسرته معه بدل ان "يلعب بديله" كعهدي به، فهو لن يأمن عيناً تراه، حتى في كابري. وإذا كانت الجزيرة وحدها سبباً كافياً للزيارة، فإن المنطقة التي تحيط بها في جمالها. وكنت قبل سنوات زرت من قاعدة اليخت في كابري بوزيتانو وبومبي. وعدت هذه السنة فزرت مع الأصدقاء بومبي لأن زوجين في المجموعة لم يكونا رأياها من قبل، وهو ما سأكمل به غداً، تاركاً القارئ اليوم في تاكسي كابري التقليدي، فهو مكشوف، إلا أن فوقه غطاء منصوب على أربع قوائم، للوقاية من الشمس. ولم أر مثله في أي مكان آخر من العالم.