هناك من يراهن على الشيخ أحمد ياسين، وهناك من يراهن على السيد محمود عباس أبو مازن أو غيره من قادة السلطة الفلسطينية، غير أن الواقع هو ان أبو عمار وحده قادر على السير في مسيرة السلام، اذا كان السير مفيداً، أو التوقف في وجه التعنت الاسرائيلي، وان يضبط شعبه في الحالين. هذا الكلام لا ينفي امكان وقوع انفجار شعبي في أي لحظة، وفي أيام أو أسابيع قليلة، لا أشهر، فالأراضي الفلسطينية في غليان، وتعطل عملية السلام مع تدهور الوضع الاقتصادي مزيج متفجّر قد يعجز حتى صمام أمان مثل ياسر عرفات عن كبحه. ورهان الغالبية على انتفاضة جديدة غير أن القلة العارفة تقول ان الانتفاضة لم تعد ممكنة، بعد أن أخلى الاسرائيليون المدن الفلسطينية الرئيسية، فلم تبق سوى نقطة احتكاك محدودة في الخليل، وأخرى في القدس. الانفجار هذه المرة لن يكون انتفاضة، وانما حرباً بين الشرطة الفلسطينية والاسرائيليين، مع امكان ان يعود الاسرائيليون الى احتلال المدن الفلسطينية في النهاية. وليس سراً ان السلطة الوطنية تكدس السلاح والذخيرة منذ أكثر من سنة، وبعض ما تملكه ممنوع بموجب اتفاقات أوسلو. كما أنها تحصّن وتعد لحرب شوارع، والفكرة الأساسية هي انه إذا وقعت اصابات اسرائيلية كبيرة، وإذا لم تستطع القوات الاسرائيلية اعادة احتلال المدن الفلسطينية بسرعة، فإن ضغطاً داخلياً في اسرائيل، ودولياً في الخارج سيقوم لوقف القتال، والبحث عن مخرج جديد يقود الى السلام. الفلسطينيون أولوا الرئيس عرفات ثقتهم، وقد تظاهر 300 ألف منهم في غزة، و500 ألف في نابلس وحدها، في ذكرى النكبة، ما أعطى أبو عمار انتداباً جديداً من شعبه. وهو الآن مطالب بالتجاوب فيعمل على محاربة الفساد عملاً لا قولاً فقط، ويعزز الجبهة الداخلية، ويرتب شؤون البيت، ويجري تغييرات على كل صعيد وبما يتجاوز تغيير الحكومة أو بعض الوزراء، خصوصاً انه قال مرة بعد مرة انه سيعلن الدولة الفلسطينية المستقلة في أيار مايو 1999. وإذا كانت الحكومة الفلسطينية أجّلت المواجهة مع المجلس مرة واثنتين، فهي لا تستطيع تأجيل المواجهة الى الأبد. طبعاً كان أفضل لو أن أبو عمار لم يوقع نفسه في المأزق الذي بلغته القضية الفلسطينية اليوم، فالخطأ ليس كله من صنعه، بل ليس من صنع بنيامين نتانياهو وحده، لأنه يمكن رد التراجع الى سنة 1995، وحزب العمل في الحكم، عندما هبط الدخل في الأراضي الفلسطينية بسبب الاغلاق والقيود على تنقل الأفراد والبضائع. وجاء نتانياهو فزاد الى الضائقة الاقتصادية ضائقة سياسية، وأصبح جهد الدول المانحة والبنك الدولي منصباً على عدم انهيار الاقتصاد نهائياً، بدل العمل على تنميته. ومع أن هناك تعهدات للسلطة في حدود 3.47 بليون دولار، فإن ما وزع فعلاً لم يتجاوز بليوني دولار، مع ابداء بعض الدول المانحة ضيقاً من استمرار الطلب منها بشكل يبدو من دون نهاية. وكان المنسق الدولي للأراضي المحتلة قال في تقرير نشرته منظمة اليونسكو ان توقعات وزارة المالية الفلسطينية وصندوق النقد الدولي عن الاقتصاد الفلسطيني سنة 1997 لم تتحقق، فهما توقعا نمواً في حدود 5.5 للانتاج المحلي الاجمالي وثمانية في المئة للانتاج الوطني الاجمالي، إلا أن ما تحقق كان 1.2 في المئة و1.6 في المئة على التوالي. وقد هبط دخل الفرد 15.7 في المئة في قطاع غزة و9.5 في المئة في الضفة الغربية و4.4 في المئة للعاملين في اسرائيل أجر العامل الفلسطيني في اسرائيل يزيد عليه في الضفة بنسبة 81.9 في المئة وعليه في غزة بنسبة 124 في المئة، للعمل المماثل. اليوم يقدم الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي حوالى ثلثي كل المساعدات للسلطة الوطنية، إلا أن المال المتوافر لا يمنع استمرار تراجع الاقتصاد الفلسطيني، خصوصاً مع وجود نسبة زيادة سكان في غزة بحدود ستة في المئة، وهي نسبة هائلة، فنسبة الولادة في أكثر الدول هي ستة في الألف أو أقل. والمؤسف في هذا الوضع ان البنك الدولي يقدر ان الأراضي الفلسطينية تستطيع ان تحقق في ظل السلام نسب نمو هائلة، تتراوح بين عشرة وعشرين في السنة. والاقتصاد الاسرائيلي نفسه يحتاج الى العمالة الفلسطينية، مع فشل سياسة استقدام أي عمالة أخرى. وبما أن دخل الفرد في اسرائيل من مستوى أوروبي غربي، فهو 17 ألف دولار في السنة، فإن امكانات استفادة الاقتصاد الفلسطيني منه واسعة. ولا بد ان نتانياهو يدرك كل هذا لذلك فهو لا يريد السلام، وهو بالتأكيد لا يريد جو سلام يؤدي الى قيام دولة فلسطينية، لذلك فربما كانت مقاومته المستمرة أي انسحاب هدفها استباق الدولة بتفجير الأوضاع لإعادة الاحتلال. وهناك رهان فرعي لنتانياهو هو صحة أبو عمار، فهو يقدر أنه إذا انتظر وقتاً كافياً فقد تتغير القيادة الفلسطينية وغيرها وتخلفها قيادة لا تملك القاعدة الشعبية والسيطرة على القرار للسير في عملية السلام أو التوقف. وهناك تطرح أسماء بديلة، من داخل السلطة وخارجها، لا يملك أي منها القاعدة التي تمكنه من التصرف بالحرية المتاحة لياسر عرفات. والأرجح ان يسقط رهان نتانياهو على صحة أبو عمار وغيره لأن انهيار الوضع الاقتصادي، مع تعطل العملية السلمية ترك الأراضي الفلسطينية في حالة غليان ستنفجر على شكل حرب لا مجرد انتفاضة. ويبدو ان السلطة الفلسطينية تتوقع هذا الاحتمال وتعد له، مع ان الحكمة تقضي ان تستعد في الوقت نفسه لبقاء الوضع من دون انفجار حتى اعلان الدولة، وان تبني في السنة الباقية المؤسسات التي تستطيع أداء عمل الدولة المرجوة.