إحدى أقدم ذكرياتي من الإقامة في لندن تعود إلى برنامج في محطة تلفزيون بي بي سي - 2، فقد جيء بخبراء النبيذ وعُصِّبت عيونهم، فلم يعرف أكثرهم النبيذ الأبيض من الأحمر. والقارئ وأنا لا يهمنا أمر النبيذ، ولكن يهمنا أمر الخبراء، فالواحد من هؤلاء، بحكم عمله، مدّع مغرور، وهو يقترض منك ساعتك ليقول لك كم الوقت، ثم يأخذ الساعة أجراً له. لذلك سررت كثيراً أن يفضح الخبراء على جانبي المحيط الأطلسي الأسبوع الماضي. ولم يكونوا خبراء عاديين، بل من أسوأ الأنواع، ففي نيويورك فضح خبراء الفن الحديث، وفي لندن فضح خبراء "الموضة". في 31 من الشهر الماضي نظمت حفلة في استديو فني معروف في نيويورك لتقديم كتاب عن السيرة الذاتية للرسام الانطباعي نات تيت، من تأليف وليام بويد. وحضر الحفلة نقاد كبار وفنانون ورسامون وغيرهم من الدائرين في فلك الفن الرفيع في نيويورك. واستمرت الحفلة إلى ما بعد منتصف الليل ودخلت في أول نيسان ابريل وكذبته. وكان كل من الحاضرين يحاول أن يقول شيئاً عن فن نات تيت، أو عمّا يعرف عنه. الواقع ان نات تيت غير موجود، فقد اخترعه المؤلف، وهو ذهل لسهولة وقوع النقاد والخبراء كافة، في المقلب الذي نصبه، ولم يساعده فيه سوى المغني ديفيد بُووِي وزوجته العارضة ايمان اللذين حضرا الحفلة، وكانا وحدهما يعرفان الحقيقة مع المؤلف. وفيما كان خبراء نيويورك يتوارون خجلاً... إلى حين، كانت جريدة "الديلي ميل" الواسعة الانتشار تنصب كميناً لخبراء الموضة في العاصمة البريطانية، فقد زعمت أن أحد مراسليها، وهو اندرو فالنتاين، مصمم ازياء بريطاني صاعد اسمه ليام ايلياو، ثم اختارت أزياء وثياباً داخلية من أرخص متاجر لندن وعرضتها في حفلة صاخبة استقبلها النقاد بترحيب كبير، واعتبروا ايلياو المزعوم موهبة جديدة تغزو صناعة الأزياء العالمية، مع أن فالنتاين، على حد قوله، لا يعرف كيف يخيط زراً إلى قميصه. وفوجئ خبراء لندن بالجريدة تفضحهم في أربع صفحات في اليوم التالي، كما فُضح خبراء نيويورك في الأسبوع الماضي. ونقول "اللهم لا شماتة" إلا أنني اعترف بأنني سعدت بفضيحة الخبراء، مع أنهم من الوقاحة أن يتجاوزوا الحرج بسرعة، فالخبير مضطر إلى أن يدّعي رأياً آخر، مهما كان رأيك، لأنه لو كان رأيه مثل رأيك لانتفت الحاجة إليه. وأبقى مع "الديلي ميل"، فالصحف الانكليزية الأسبوع الماضي امتلأت بأخبار عملية السلام، إلا أن العملية هذه كانت محاولة إقرار السلام في ايرلندا الشمالية لا قضية الشرق الأوسط. وتفاوض الفرقاء في بلفاست على مدار الساعة وأخيراً طلعوا باتفاق. وهم بذلك عكس العرب، فنحن نوقع ثم نفاوض، أما هم فيفاوضون ثم يوقعون، وربما يشرح هذا لماذا لا نزال حتى اليوم نحاول تفسير اتفاقات أوسلو. المهم ان "الديلي ميل" والصحف الأخرى اهتمت بالسلام، لكن الخبر الأهم كان محاكمة ضابط بريطاني رفيع المستوى أمام محكمة عسكرية بتهمة إقامة علاقة غير مشروعة مع زميلة له. وعندما انتهت المحاكمة ببراءة الضابط، نشر الخبر في صدر الصفحة الأولى من كل جريدة انكليزية، وخصصت له "الديلي ميل" في الداخل أربع صفحات. ومرة أخرى، هناك ضابطان جمعتهما علاقة محرمة انتهت، ولا أفهم سرّ الاهتمام الهائل بهما، فلا بد أن الصحف الناشرة وجدت الخبر مهماً ومقروءاً. وإن نافس خبر الضابطين شيء الأسبوع الماضي، فهو خبر عشيق المذيعة التلفزيونية أنثيا تيرنر، فالمليونير غرانت بوفي عاد إلى زوجته وبناته الثلاث بعد علاقة استمرت بضعة أشهر مع المذيعة الحسناء، ووجدت الصحف البريطانية الخبر مهماً إلى درجة أن تمتلئ به الصفحات الأولى من الصحف الرصينة مع صحف الإثارة. ومرة أخرى لم أفهم سبب الاهتمام، فمثل هذه الأمور يحدث كل يوم. ويبدو أن قضية الشرق الأوسط عطلت فهمنا، فأصبح الواحد منا يقيس العالم كله عليها، مع اسراعي إلى التأكيد انني لست خبيراً في قضية الشرق الأوسط أو الفن التجريدي أو الموضة، أو أي مصيبة غيرها.