كثر الحديث كما كثرت ردود الفعل حول الوضع الذي آل اليه قبر النهضوي عبدالرحمن الكواكبي في القاهرة، وهذه المقالة ليست سوى محاولة لطرح وجهة نظر لا ينطلق كاتبها من كونه الحفيد الصغير للكواكبي فحسب، بل يطمح للانطلاق من خصوصية الحالة الى تعميم لا يتجاوز المعطيات الواقعية والسيرورة التاريخية. ان ما حصل لقبر الكواكبي في القاهرة يمكن وببساطة ان يُفسّر باستشراء الاهمال والفوضى، وهي حالة نمطية في عالم ثالث تعيث فيه ثنائية الفساد والفقر وتتكرس. وهذا مما لا يفسر الاعتداء على المقابر فحسب بل على الذاكرة الحضارية برمتها، وعلى مجمل المنجزات الثقافية والجمالية. ومن الطبيعي ان تشمل هذه المجرفة المقابر والاضرحة باستثناء تلك التي تتمتع بحماية رسمية - سياسية او عائلية وهذه الاخيرة لم تتوفر لقبر الكواكبي لاسباب جغرافية بدهية. من الواضح ان ما يحصل لهذا القبر ليس اعتداء منظماً او مقصوداً كما التبس على البعض فاندفعوا الى اطلاق العواطف النبيلة والاستنتاجات الحادة التي اظن انها تحمل - على المستوى اللغوي - طابعاً رمزياً اكثر مما هو مباشر. ومما لا شك فيه ان مصر قامت بدور رائد في احتضان الكواكبي - كما معظم رجالات النهضة العربية - وفي نشر افكاره والاهتمام بها. والاهم ان فكره ما زال حياً وفاعلاً في كتابات الكثير من كبار المثقفين المصريين، ليس لانهم يعودون الى كتاباته وقيمه في كثير من الاحيان فحسب، بل لان هؤلار المتنورين الكبار لا يزالون يصارعون الاستبداد قولاً وفعلاً، وهو استبداد يكتسب كل يوم اشكالاً اكثر وقاحة والتباساً في آن، على ساحات عربية تعيش انتكاسات متتالية لمشاريع نهضة وحداثة ما. ان الجوهري كامن بالطبع في احياء الافكار والجدال معها ونقدها، ولكن الامكنة - عند الامم المتحضرة - ليست مجرد احجار وجدران بل هي فضاءات للذاكرة المستعادة وللتفاصيل الحميمة والتداعيات المفتوحة على التاريخ والمستقبل، ان التغيير الحقيقي نحو الافضل لا يمكن ان يتم الا بالحفاظ على المكان بثرائه، بعيداً عن اي دوغما تاريخية لتبرير اي نوع من انواع الاستبداد والآحادية. وتجدر الاشارة هنا الى مفارقة تكمن في ان الذين يكثرون من الحديث عن الاصول والامجاد السالفة هم اكثر من قاموا بتدمير رمزي مباشر فيزيقي للمكان التاريخي على تنوعه وتراكماته، مكرسين آحادية تعم المكان والنموذج، سواء تشكلت هذه الآحادية بشكل "اصولي سلفي" او آخر "تحديثي" لاحداثي مزيف يقتبس اسوأ نماذج "الرأسمالية المتوحشة" او ثالث "دوغمائي ايديولوجي" احط تجارب الاستبداد التاريخية والمعاصرة والحقيقة انه ما من تناقض جوهري بين هذه الاشكال الثلاثة بل يتكامل - في العمق - واحدها مع الآخر ويرثه في معطياته وخطابه وعلاقته بالانسان وقيم الحداثة. وهذا بينما نرى ان الاوروبيين وهم اصحاب الحضارة الحيّة الوحيدة في يومنا هذا - بالمعنى القيمي لا الجغرافي للكلمة - قد قدموا ويقدمون امثلة حيّة وحقيقية على امكانية الحفاظ على ذاكرة المكان واحيائها واحالتها الى سياق فاعل، لأن الحضارة - وديدنها في عصرنا كامن في التعددية والديموقراطية - هي صيرورة، بينما الاستبداد هو انقطاع وشطب والغاء لكل شيء سوى المقدس المطوّب كتابو لا مساس به، وهو تكريس للموت الواحد الذي لا يمكن ان يتماشى مع عراقة المكان وتنوعه وتعدده. وهذا على رغم مآخذنا على الحضارة الغربية، بل مآخذ اصحابها عليها، ومآخذهم حقيقية اما مآخذنا فموهومة في معظمها! ونحن ندرك ان مصر هي اكثر الدول العربية حفاظاً على تنوع ذاكرتها المتراكمة الثرة رغم هجمات الاستبداد سياسياً كان ام انفتاحياً وذلك بفضل رسوخ مؤسساتها، وهو رسوخ استطاع ان يحافظ على وجود هذه المؤسسات ودورها في حماية المكان. وعوداً على بدء اؤكد ان ما حدث لقبر الكواكبي في القاهرة - كما اطلعت عليه من خلال الصور الفوتوغرافية وشهادات من زاروه - ليس اكثر من اهمال سببته الفوضى والفقر والجهل. ولكن مثل هذا الاهمال من الذي يمكن ببساطة ان يزيله من على وجه البسيطة؟ لا املك سوى الاقتراح بأن تقوم احدى الجهات المختصة في مصر بترميم الضريح والحفاظ علىه كتفصيل بسيط من تراثها الحضاري العظيم. ان بقاء القبر في القاهرة احتوى ويحتوي على معنى رمزي يرتبط بالدور الذي لعبته الكتابة كحاضنة اساسية لعصر نهضة عربية تشكلت من تراكم وتصارع افكار وحيوات وانفتاح سوسيو-ثقافي على حداثة وافدة تمت محاولات حثيثة لتبيئتها، ويملك الحيز المكاني ميزة حامل لقيم جمالية ثقافية ورمزية تحيل الى التنوع الناشئ عن احلام بالنهضة والنور والمستقبل.