الكتاب: الحضارة والاغتراب الكاتب: عبدالله الخطيب الناشر: أوراسيا - استوكهولم، دار النبوغ - لندن 1998 الاغتراب اصطلاح عربي مشتق من الغربة عن الأهل والديار. وهو كمفهوم منقول من الثقافة الغربية المعاصرة يدل على امكان فقد الشخص الاحساس بالتكيف مع المحيط والانتماء الى القوم من دون ان يغادرهما جسدياً. وقد يتفاقم الاحساس الى فقدان الذات بالكامل وفقدان الانسانية بسبب الاضطهاد السياسي او الاجتماعي او الضغط الاقتصادي. وقد يتخذ الاغتراب طابع الانعزال والسلبية والتصوف او يدفع الى التمرد والثورة، كما قد يؤدي الى العبثية والانفصام. يتناول الباحث هذا المفهوم بالدراسة راصداً مظاهره من خلال علاقته بالحضارات منذ ان بدأت هذه قبل ستة آلاف سنة، مركزاً امثلته على حضارات الشرق الأدنى، والتغيرات التي طرأت عليه بفعل الفلسفات ثم الديانات السماوية. يتبنى المؤلف منهج المادية التاريخية تبنياً كلاسيكياً في قراءته للتاريخ مقتصراً على العوامل المادية من صراعات طبقية، وتطور أنماط وأدوات الانتاج، من دون اعتبار للهزيمة التي تعرض لها هذا المنهج في الأعوام الأخيرة والمراجعات التي طالته حتى في المدارس التي تتبناه. فمفهوم الحضارة ذو تعريفات كثيرة تختلف باختلاف المناهج الطبيعية او الوضعية او المثالية او الوجودية او الليبرالية او الاكاديمية. بيد ان الكاتب يخلص من بين كل التعريفات الى ان الحضارة هي "تاريخ الصراع الطويل بين النظرة الانسانية الشاملة للحياة والوجود وبين الجشع اللامحدود والاستغلال والبيروقراطية والسيطرة، وأن هذا الصراع هو جوهر التطور". في الفصل الأول من الكتاب يضيء الباحث مرحلة التكوين الأولية للحياة الاجتماعية وتكون الخلية الأولى للمجتمع، اي الأسرة. وينضم الى صف الباحثين الذين يرون ان المرأة ظلت لآلاف السنين محور النشاط الاجتماعي والتطور "وأصل النماء"، فهي التي أرست أسس الأسرة بفضل وظائفه الجنسية وتفوقها البيولوجي الثابت في عالم الانسان وعالم الطيور والحيوان على حد سواء. فهي أول من اهتدى للزراعة وبنى المسكن ودجن الحيوان وحاك الملابس وطهى الطعام وربى الأطفال وعلمهم ودافع عنهم. من هنا كانت الآلهة في الأساطير القديمة "أنثى" دائماً، وكانت القبائل الأولى في ذلك العصر تنتسب الى "الأم" وتخضع لسلطة "المرأة". وفي تلك العصور كان الانسان ملتحماً مع بيئته، متفاعلاً مع محيطه يعيش بتلقائية وفق رغباته ومشاعره واحتياجاته. ولم يختلف الأمر إلا بعد ان بدأت المرأة تخسر سيادتها لصالح الرجل الذي لم تكن له وظائف تذكر مقارنة مع المرأة. ومع تسلط الرجل ظهر التسلط الاجتماعي وما يتفرع عنه، وظهر الحقد والبغضاء والسرقة والكذب والبخل وازدواج الشخصية، ومع هذه الاضافات الذكورية السلبية، ظهر ايضاً الاغتراب كنتيجة طبيعية. اما الفصل الثاني فيرصد الآثار التي ترتبت على انتقال السلطة من الأم الى الأب، ونشوء الدول واكتشاف الزراعة، وذلك في الألف الخمس قبل الميلاد في الشرق الأدنى سورية. ومعها حدثت صناعة الفخار وأدوات العمل والسكن والتدجين ما أدى الى اكتمال "عملية الانتاج" وتبلور البنى الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية ومفهوم "فائض القيمة". وبمعنى آخر، ظهر الاستغلال المادي والجشع والتمييز واستعباد الانسان لأخيه الانسان، وشارع الاغتراب والاستلاب. لقد مثلت هذه التطورات من ناحية ثورات عظيمة في التاريخ على الصعد البنيوية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، إلا ان أثمانها وأكلافها كانت باهظة إذ تولدت منها ظواهر مضادة للانسجام الانساني وتتناقض مع الحرية والحياة الطبيعية الكريمة، بدءاً من الاستغلال والرق والظلم الى الحروب والابادة والقهر، وعلى رأس ذلك حالة الاغتراب النفسي. في الفصل الثالث يبحث المؤلف عن مفهوم الاغتراب في الفكر الانساني القديم، حيث كان الشكوى من الاستبداد والقمع والتقاليد الفاسدة ديدن الحكماء والفلاسفة والشعراء وكذلك التطلع الى الحرية والكرامة والمساواة والعدل. ويقدم الكتاب نماذج من الآثار الفنية والفكرية التي تناولت هذه الأشياء في مصر القديمة ابوور وامنحوتب، وفي بابل القديمة قوانين حمورابي، وفي فارس حيث ازدهرت الزرادشتية وانتقل تأثيرها الى اليونان من خلال فلسفة افلاطون وطاليس. وفي الهند ازدهرت ثقافة المقاومة عبر الحكمة والفلسفة، وفي الصين تمثلت هذه الأفكار في الطاوية التي عبرت - في رأي الكاتب - عن نواة أولية للجدلية المثالية التي ظهرت بوضوح في القرن التاسع عشر. وفي السياق نفسه برزت الكونفوشيوسية التي سعت الى توفير الانسجام بين رغبات الانسان والوضع الاجتماعي العام السائد في الصين القديمة حيث تفشى الظلم بدرجات قياسية. وبرزت في السياق نفسه المزدوية في بلاد فارس وأفكار السفسطائيين في بلاد الأغريق، ومذهب الاحناف في الجزيرة العربية. في الفصل الرابع يتعرض المؤلف لموقف الأديان السماوية من العوامل الاجتماعية والمادية لنشوء الاغتراب. إلا ان تعرضه كان غير متوازن، فهو يقتصر على اختزال مكثف لليهودية، واختصار نسبي للمسيحية، مقارنة مع شرح مسهب وتاريخي لموقف الاسلام يقتضيه بالطبع ويبرره الشمولية الفكرية والاتساع التاريخي للاسلام وتجربته. يشير الكتاب الى ان الديانة اليهوية تميز بين من هو يهودي وغير يهودي، فتحرم استرقاق الأول وتبيح استرقاق الآخرين بالحرب او بالشراء ولا تسمح بتحرير المسترقين أبداً. اما الديانة المسيحية فدعت الى المساواة وخرجت على قواعد اليهودية ما جعل هذه تتصدى لها وتعاديها بعنف. غير ان المسيحية أقرت أبشع أشكال الظلم وأعمق مصادر الاغتراب في التاريخ أي نظام الرق والعبودية كنظام اجتماعي وسوغت التسلط السياسي، إذ دعا القديسون اتباعهم للاخلاص للرب وللسادة الذين يملكونهم او يحكمونهم. وناصبت الكنيسة على مر التاريخ الطبقات المسحوقة العداء وشاركت في سحقها واضطهادها ودفعها للاغتراب والاستلاب، وبرر القديس اوغسطين أعمال الملوك والأباطرة المتجبرين. وفي ظل المسيحية أضحى للسيد الروماني حق التصرف المطلق بعبيده بما في ذلك قتلهم. ولا يمنع ذلك من ان الفكر المسيحي حاول مواكبة التطور فاستفاد، مثلاً، من الرواقية لاحقاً لمعالجة اخفاقه في حل المعضلات الانسانية السابقة وذلك بتأييد دعوتها لازالة الفوارق الطبقية وتحرير البشر. اما موقف الاسلام فيتلخص في انه لم يشرع الرق كنظام اقتصادي كما فعلت كل الأمم والحضارات والديانات السابقة، بل دعا وسعى الى التخلص منه تدريجاً وشجع على العتق والتحرير ومعاملة العبيد اثناء ذلك معاملة مساوية للأحرار ورتب لهم حقوقاً اجتماعية وانسانية ثابتة. إلا انه في المقابل لم يحرم الرق او يلغه فوراً، وتركه يضمحل بالتدريج مع التطور التاريخي والحضاري. ومن الناحية العملية فإن الفتوحات الاسلامية ساعدت في تضخم حجم الرق في المجتمعات الاسلامية وشيوع الاستعباد الاجتماعي والاقتصادي الأمر الذي أدى لانفجار ثورات كالزنج والقرامطة التي وحد الشعور بالاغتراب القوي بين فئاتها وطوائفها المضطهدة. وبروز تيارات ومذاهب فكرية ثورية مضادة للاستغلال والاستبداد وتدعو الى العودة الى منابع الاسلام الأصلية، واصلاح المجتمعات، سبيلاً الى المساواة والحرية والانسجام بين الفرد والعامة. وفي الفصل الخامس والأخير يركز الكاتب على رصد المحاولات الثورية داخل المجتمع الاسلامي العربي بصورة رئيسية وغير العربي بصورة أقل. فيشير الى تشكل حركات المعارضة من المضطهدين ومن المسحوقين والمستلبين، كالحركات العلوية المتتالية والشيعية ثم المعتزلة والأشعرية والقرمطية والاسماعيلية والفاطمية وأخيراً الثورة البابكية حيث بدأ عصر انحلال الدولة العباسية قبل ان تنتهي نهائياً على أيدي المغول، ويتفاقم الشعور بالاغتراب ويتعمق.