بالكاد كان أحد سمع باسمه. ولكن منذ تلك اللحظة بات على الكثيرين ان يحسبوا له الف حساب، هو الذي سيبقى حتى سنوات ستالين الاخيرة واحداً من اعمدة الحكم عيون ستالين على الرفاق، والمتحكم بأمره في شؤون الاستخبارات وفي العديد من الشؤون الاخرى. اسمه لافرنتي بيريا، وسيعتاد الناس في العالم اجمع على ان يعرفوه باسمه الثاني: بيريا بكل اختصار، وهذا الاسم ذو الرنّة الموسيقية، سيلقي الرعب في طول الاتحاد السوفياتي وعرضه. اما مزاياه فلا يعرفها احد غير ستالين، الذي "انجذب" اليه ذات يوم حين كلف بيريا بأن يؤمن له الحراسة حين قرر ان يرتاح بعض الوقت في احدى قرى القوقاز. تلك الحادثة لن ينساها الشيوعيون القوقازيون بعد ذلك ابداً. فما الذي حدث؟ بكل بساطة ابلغت القيادة المركزية للحزب في موسكو، فرع الحزب في القوقاز، وكان يحمل اسم "فرع عبر القوقاز للحزب الشيوعي" ان الزعيم جوزيف ستالين يزمع ان يخلد الى الراحة بعض الشيء. وهكذا استنفرت لجان الحزب وتم اختيار قرية تسكالتوبو الصغيرة الوادعة ذات المناخ المعتدل لكي يقيم ابو الشعب الصغير فيها. وهناك تمت مصادرة فيلا ضخمة، كما تم تأمين كل ما قد يحتاج اليه زعيم البلاد، بما في ذلك - خصوصاً - امنه الشخصي. ففي ذلك الحين كان ثمة ما يشبه "البارانويا" في ما يتعلق بأمن الرجل. كان مساعدوه واثقين من ان هناك مؤامرات تستهدفه، لذا، فالمطلوب ان تؤمن له حراسة قوية. ولهذه الغاية ارسلت طوابير من رجال "الغيبيو" الأب الشرعي للكا. جي. بي فيما عيّن لافرنتي بيريا الذي كان مشهوراً بعنف اساليبه وقوة عزيمته وايمانه الاعمى بالزعيم، لكي يؤمن حراسة هذا الاخير، على رأس مجموعة من اكثر رجال الاستخبارات والحراسة خبرة بيريا في الصورة. في تلك المنطقة الساحرة، قضى ستالين ستة اسابيع، كانت مريحة حقاً له، أنسته الدنيا وشؤون السياسة وخصومه المتربصين به. وخلال تلك الاسابيع كان كثيراً ما يحدث لستالين ان يتحدث الى رئيس حراسته بيريا، في شؤون الطبيعة والسياسة والحزب، ولفت الرجل نظر زعيمه حقاً بأسلوبه الصريح والواضح، وعزيمته البينة وعلامات الاخلاص التي كان يبديها. وسرّ ستالين اكثر، لأن بيريا كان من جيورجيا، اي من نفس المنطقة التي ينتمي هو اليها. وهكذا تجمعت العناصر التي سيكون من شأنها ان تجعل من بيريا صاحب مكان صدارة في الحكم. ولما كان ستالين من الذين لا ينسون مثل هذه الامور الصغيرة، ما ان عاد الى موسكو حتى أحسّ من جديد بالحاجة لكي يكون بيريا قريباً منه. وهكذا، ما ان تفرّغ للأمر قليلاً، وحل اليوم الثالث والعشرون من تشرين الاول، حتى استدعى اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في منطقة عبر القوقاز، ليخبرهم قراره بنقل بيريا الى منصب اعلى من المنصب الذي يشغله، لان تلك كانت الوسيلة المثلى لنقله بعد فترة الى موسكو، وقال للجنة انه قرر تعيين بيريا سكرتيراً ثانياً لذلك الفرع في الحزب، والحال ان ستالين كان يهدف اضافة الى التمهيد لنقل بيريا الى السلطة المركزية في موسكو، ان يجعل من بيريا عينه الساهرة في منطقة القوقاز التي يبدو انه لاحظ خلال وجوده فيها ان ثمة شيئاً من عدم الانضباط في علاقتها مع السلطة المركزية. ومن المؤكد ان بيريا حدّثه عن الامر طويلاً خلال احاديثهما التي تبادلاها حين كان ستالين هناك. اللجنة القوقازية لم يكن ليزعجها ان ينقل بيريا الى موسكو، ولكن ازعجها حقاً ان يُسلَّم كل تلك السلطة التنفيذية والرقابية في القوقاز ولو لفترة محدودة انتقالية، ومن هنا صرخ لافرنتي كاتفيليشفيلي، الامين العام الاول للجنة المركزية للفرع قائلاً، دون ان يحسب لكلماته حساباً بسبب غضبه وطبيعته الصاخبة، ولانه كان يعتقد ان له دالّة على ستالين: "اذ لا يمكنني ابداً ان اعمل مع نصّاب مثل هذا". ويمكن ان نتخيل ان تلك العبارة كانت كافية لحسم الامور. اذ استبدّ الغضب بستالين، وقال رادّاً على الرجل: "ان الاجراء سوف يسير في طريقه". وفي ذلك اليوم بالذات، سار الاجراء في طريقه فعلاً، وسار في طريقهم الى سيبيريا حيث جرى نفيهم: اعضاء اللجنة المركزية وعلى رأسهم كاتفيليشفيلي، بعد ان تمّت اقالتهم من مناصبهم كافة. وبدأ بيريا رحلته الصاعقة نحو قمة السلطة.