اعتبر مثقفون أن الدور الذي يفترض أن يضطلع به المثقف ازداد صعوبة في ظل هيمنة المؤسسات التي يكون المثقف فيها جزءاً من فريق عمل كبير، مشيرين إلى أن المثقف الحقيقي هو ذلك الذي يؤرقه تعود الناس على الزيف والخطأ والاستبداد، وهو الذي يكون صديق الجميع، وفي الوقت نفسه عدو أفكارهم المتخلفة. وأكد هؤلاء ل«الحياة» أن الكثير من المفاهيم لا تستقر في أذهان الأمم إلا بعد مخاضات، تخرجها من حال الاضطراب الثقافي إلى حال الاستقرار، ويعاد تشكيلها بعد الأزمات أو بعد الكوارث الثقافية، في مسارات جديدة بحيث تناسب المرحلة الجديدة. هنا عدد من الشهادات حول أي دور جديد يمكن انتظاره: سعود البلوي: النقل من حال الجمود إلى التفاعل من الصعوبة القول إن المثقف يقوم بدور جديد، لأن دوره محدد سلفاً في إنتاج وإعادة إنتاج الثقافة، ونقلها من حال الجمود إلى التفاعل والتطور. هنا تكون المحددات والأطر العامة لدور المثقف قد حُددت، لكن تبقى الطرق والوسائل والأساليب التي يعتمد عليها المثقفون في تحقيق هذه الرؤى والأطر العامة، فبعضهم يرى أن تحقيقه للدور محصور في الكتابة والإبداع والإنتاج الفكري أو الأدبي، بينما قد يرى آخر أن دوره الأهم في النشاط المجتمعي من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وربما يرى ثالث أن تحقيقه لدوره المفترض يكون من خلال مراكز البحوث وقاعات الدروس والمحاضرات في الجامعة، وقد يوجد أيضاً من يعتقد بأنه يحقق تطوير ثقافته من خلال ولوجه المجال السياسي على طريقة فرانسيس بيكون أو حتى هيغل، فالأهم أن يكون الدور الذي يقوم به المثقف متاحاً وتكون المساحات متوافرة له كي يتحرك. غير أن صعوبة الدور الذي يفترض أن يقوم به المثقف الفرد قد ازداد صعوبة في ظل هيمنة المؤسسات التي يكون المثقف فيها جزءاً من فريق عمل كبير. وعلى رغم أن هذا الأمر لم ولن ينفي أهمية جهده المنفرد، ولاسيما في ظل انتشار وسائل وتقنيات الإعلام التي سهّلت وصول أفكار المثقف للجماهير، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم قد كرّست صلة المثقف بالجمهور وتواصله معهم، ومن ثم فإن دوره التقليدي لم يعد كافياً، بل عليه أن يكون متفاعلاً و«تفاعلياً» مع كل تحوّل جديد وتطور مفصلي يمكّنه من صياغة الأفكار في الفضاء المجتمعي العام، ليكون دوره مؤثراً، وعلى ضوء ذلك يمكنني التأكيد على أن المثقف قادر على أن يقوم بدوره التقليدي بأساليب جديدة ومتنوعة. سهام مرضي: طرح الأسئلة واستفزاز التبعية أعتقد بأن دور المثقف في أي مجتمع هو طرح الأسئلة، استفزاز الجمود والتبعية، إثارة التفكير، والنقد الموضوعي والمستمر والمستميت لكل ما من شأنه تراجع المجتمع وقيم الإنسانية والحرية والعدالة. إن المثقف الحقيقي هو ذلك الذي يقض مضجعه تعود الناس على الزيف والخطأ والاستبداد، وهو الذي يكون صديق الجميع وفي الوقت نفسه عدو أفكارهم المتخلفة. وفي رأيي المتواضع أن المثقف عندي هو الذي يخرج من الجموع والشعب ويتوجه لهم وبأساليبهم وفي أماكنهم مهما بلغت من الاحتقار والضآلة، وليس الذي يحيط نفسه بالنخبة ويتحدث من برج عاجي وبلغة لا يفهمها سوى القلة وينزع لتوجيه رؤاه باستعلاء واحتقار كبيرين لمن يسميهم العامة. صالح العديلي: الوعي بالمتغيرات الأساسية دور المثقف الواعي بمتغيرات وتداعيات عصره من المؤكد أن الكثير من المفاهيم لا تستقر في أذهان الأمم إلا بعد مخاضات تخرجها من حال الاضطراب الثقافي إلى حال الاستقرار، ويعاد تشكيلها، شئنا أم أبينا، بعد الأزمات أو بعد الكوارث الثقافية، وتعاد صياغتها في مسارات جديدة بحيث تناسب المرحلة الجديدة التي تتفاوت في اختلافها وفق القاعدة الثقافية التي تتكئ عليها الأمة. وكذلك هو دور المثقف الذي يعيش مخضرماً بين مرحلتين، إذ إنه لا بد له من أن يعي الكثير من المتغيرات الأساسية، ويعد نفسه، بكل اتزان وتوازن، للتعامل معها بحذر في بداية الأمر، ويكوّن تجاهها انطباعات قابلة للتحول إلى قناعات موضوعية صلبة تسهم في البناء، وتشترك بكامل مفرداتها وصيغها وأدواتها الجديدة للانتقال سلمياً إلى الوضع الجديد من دون أي مساس بالثوابت التي تكون فكر الأمة على المدى البعيد، وتتشكل مستندة إليها هويتها الثقافية والاجتماعية والفكرية. كما يجب أن نلتزم الهدوء، وألا نسرج خيول نرجسيتنا للهرولة خلف مراهقينا ودهماء القوم فينا، ونسير خلف من يقودنا إلى التخلي عن ثوابتنا لنلحق بركب الشعارات التي ترفع وتنادي بالانسلاخ من هويتنا التي لا نملك غيرها، وهي التي حفظتنا على مدى الدهور وأوقفتنا إلى جانب ومصاف الأمم المتحضرة من حولنا. كما ينبغي ألا نصغي لتلك النداءات التي تطوقنا لترغمنا على الاستسلام، وتعيدنا إلى تلك الهوية الدينية القبلية التي تريد أن تطمسنا وتلغي ثقافتنا، وتعيدنا، كما هي حال الهنود الحمر، إلى صحرائنا. شتيوي الغيثي: خارج السياق الجديد كان المثقف يحمل رؤية واضحة؛ بل وتنبؤية أحياناً، أو بالأصح، هكذا أوهم نفسه وأوهمنا معه. اكتشف المثقف العربي أنه خارج السياق الجديد حتى إنه كان من أكثر الذين تفاجأوا بالثورات على رغم تنظيراته التي لا تنتهي. انقسم المثقفون في الموقف الجديد بين أمرين: الأول كان مطبلاً للسياسي ضد الشعوب، الثاني كان منجراً إلى الهيجان الجماهير وباركه حتى حصلت الخيبات فيما بعد، وفي كلا الأمرين عاد المثقف إلى كرسيه الوثير ليترك الجماهير خلفه تتخبط بدمائها وخيباتها. بين اللعبة النخبوية واللعبة الشعبية يتراوح المثقف العربي. كان يجب أن تنكسر تلك الثنائيات الحدية. لستُ من دعاة النخبوية على رغم أنني أعتقد بأن الثقافة العميقة نخبوية بطبعها مهما قلنا بشعبوية الفكر، كما أنني لستُ ممن يرى انتهاء النخبة وحلول الجماهير أو بروز الشعبي، وإنما أحاول أن أختط رؤية جديدة تجمع بين هذه وتلك، لعل المثقف أن يتحرر من استبدادية النخبة أو التماهي الجماهيري، كي يحمل رؤية تشاركية ونقدية معاً تجاه الأطراف جميعها، لذلك دعوت في كتابي «ميادين التغيير» إلى ما سمّيته المثقف «التشاركي» منطلقاً من تواصلية هابرماس الأفقية الحوارية واختلافية جيل دولوز الرأسية في نقد المفاهيم. لا أدّعي أنني جئت بجديد هنا، بل إنني استفدت من علي حرب من طرحه لمفهوم المثقف الوسيط، لكن ما أحببت أن أضيفه هنا هي تلك الرؤية النقدية التي يحملها المثقف تجاه مفاهيمه ومفاهيم مجتمعه على حد سواء، لا أن يكون متعالياً عليهم أو متماهياً معهم.