من العادات القبيحة التي يمارسها المجتمع - هنا - القيام لكل داخل للسلام عليه.. الأمر الذي يفوّت فرصة الاستمتاع بالجلسة، واستكمال وحدة الموضوع الذي يُطرح للنقاش، بحيث يُقطع مراراً وتكراراً، عندها تموت الحماسة وتتشتت الرؤى وتتبعثر الفكرة! أكثر من ذلك إن القيام للداخل يُعد «ربكة» في أرض الجلوس، فهذه كأس ماء تُنثر، وذاك فنجان شاي يُكب، وذلك صحن تمرٍ ومكسرات ينقلب على عقبيه... إلخ، وهذا كله من أجل «السلام»، ليتساءل شيخنا الفيلسوف عبدالرحمن المعمر بلغته الساخرة اللاذعة، قائلاً: «إذا كان هذا هو السلامُ، فكيف تكون الحرب، وقد نتج من السلام كل هذه «الدربكة والفوضى والدمار»؟! الجدير بالذكر أن نظرية الفيلسوف المعمر، تبناها الصديق الشهم محمد سعيد طيب في «ثلوثيته» المعروفة، فأصبح الداخل يسلّم بالإشارة، أو يكتفي بالسلام على صاحب المنتدى نيابة عن الحضور، ونتج من هذا الانضباط - في الثلوثية - المحافظة على ما مجموعه، 100 كوب من الشاي، و40 صحناً من الفستق كانت تُكسر أثناء القيام، و200 حديث كان ينقطع سندُها بسبب «لغوصة السلام»، وأكثر من 500 «نفس» ما بين معسل وشيشة وسيجار كانت تطير في الهواء نتيجة التأهب لمصافحة القادم، بحسب ما أشارت إليه دراسة أجريت بعنوان (أثر منع القيام للسلام على أمن الثلوثية وما فيها من الطعام)! ونظراً لأن القوم - هنا - مرتبطون أشد الارتباط بالنص الديني، والتوجه الإسلامي، فلا محالة من إيقاف هذا «السلام الحربي» من خلال تعاليم «النص الديني»! حسناً ماذا يقول الدينُ؟! سأل سائلٌ أحدَ علمائنا «الكبار» قائلاً: (يُروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا، فقاموا له، فقال لهم: «لا تقُوموا كما تقوم الأعاجمُ يُعظّمُ بعضُهم بعضاً»! أ– ما حكم الإسلام في وقوف الطلبة لمدرسيهم أثناء دخولهم الفصول هل هو جائز أم لا؟ ب– هل وقوف بعضهم لبعض في المجالس حين التحية والمصافحة منهيٌ عنه؟ وكان الجواب كالتالي: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وخير القرون القرن الذي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان هديه مع أصحابه في هذا المقام، أنه إذا جاء إليهم لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، فلا ينبغي لهذا المدرس أن يأمر طلبتَه بأن يقوموا له، ولا ينبغي لهم أن يمتثلوا إذا أمرهم، فإنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق)! وقبل التأكيد على ازدراء القيام لكل قادم، يمكن الإشارة إلى أن قيام الطلبة لمعلمهم أمرٌ مختلف، فالقيام للمعلم لا يعني التعظيم، وإنما يعني الانضباط وإشعار الطلبة بأن الدرس قد بدأ، وأن المحاضرة قد انطلقت، ومن عمل في مهنة التدريس – من أمثالي - يدرك أهميةَ القيام، ومدى انعكاسه على تنظيم الفصل وترتيب طلابه، وهذا القيام لا يُعتبر من قريب أو بعيد دلالةَ تعظيم أو إجلال، وإن كان تقديرُ المعلم أمراً واجباً، وعلى هذا يُحمل قول أمير الشعراء أحمد شوقي: قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلاَ كَادَ المُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولَا إن كثيراً من العادات السيئة التي تستحوذ على المجتمع يجب خلعها بالتي هي ألطف وأسلم، وما القيام للأشخاص إلا من هذه السلوكيات التي تستحق الإلغاء! أعلم أن أحد المتفلسفين سيقول: هل انتهت القضايا، ولم يبق إلا هذه القضية؟ أين أنت من قضية غزة والعراق وكشمير والصومال..؟ لماذا لا تحمل «هم المسلمين»؟! والإجابة على ذلك أن هذه القضية يمكن حلها أو مناقشتها، أما القضايا الكبرى فلم يَطلب منا أحدٌ أن نطرحَ رأينا فيها! ناهيك عن أن الكتابة فيها «مضيعة للوقت والحبر»، فلا أحد من أهلها يقرأ ما نكتبُه عنها.. لذا تركتُ هذه «القضايا الكبرى» لأصحاب الرؤوس الكبرى الذين يجب أن يكون مكانهم الطبيعي «هيئة الأممالمتحدة، وليست صفحات الجرائد»! حسناً ماذا بقي؟ يا قوم - أسألكم بالله - اعفونا من القيام لكل داخل، حتى ُنناقش قضايا القبول بالجامعات وارتفاع الأسعار وكثرة السرقات وارتفاع نسبة الحوادث بكل هدوء وسكينة ومن دون مقاطعة وفواصل قيامية لهذا الداخل أو ذاك!