بواكير تمور المدينة المنورة تُنعش أسواق المملكة بأكثر من 58 صنف مع انطلاق موسم الحصاد    المنتدى الاقتصادي العالمي يختار انتلماتكس كأحد رواد التقنية لعام 2025    السعودية ترحب بإعلان ترمب وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل    الحكومة الإسرائيلية وافقت على مقترح الرئيس الأميركي لوقف إطلاق النار مع إيران    أمير تبوك يطلع على تقرير أعمال فرع وزارة التجارة بالمنطقة    هيئة تطوير منطقة المدينة المنورة تطلق دعوة تأهيل لتنفيذ مشروع "أجرة المدينة"    في لبنان.. بلدة ريفية تحظر صياح الديوك    قاضية أميركية تعرقل خطة ترمب لإغلاق أبواب «هارفارد» أمام الطلاب الأجانب    أمين منطقة القصيم يوقع عقد مشروع صيانة الشوارع غرب مدينة بريدة بأكثر من 17 مليون ريال    قطاع خميس مشيط الصحي يُنظّم فعالية "الإسعافات الأولية"    "غرفة نجران :تستعد غدًا لإنطلاقة فعاليات منتدى نجران للاستثمار 2025"    حرارة شديدة ورياح على أجزاء من عدة مناطق في المملكة    جامعة أم القرى توقّع مذكرة تفاهم مع هيئة جامعة كامبردج لتعزيز التعاون الأكاديمي والبحثي في تعليم اللغة الإنجليزية    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    الرواشين.. ملامح من الإرث المدني وفن العمارة السعودية الأصيلة    أمير قطر يتلقى اتصالًا هاتفيًا من الرئيس الأمريكي    الإسلام دين الرحمة والتسامح لا مكان للكراهية والعنف    أمير القصيم : عنيزة تمتاز بالسياحة الريفية والعلاجية    حكاية مؤرخ رحل    موعدنا في الملحق    ولي العهد للشيخ تميم: السعودية وضعت كافة إمكاناتها لمساندة الأشقاء في قطر    الأخضر السعودي لرفع الأثقال البارالمبية يحقق إنجازات عالمية في كأس العالم بالصين    البرتغال وإسبانيا تجهزان الاتفاق للموسم الجديد    صندوق الاستثمارات يؤسس برنامجاً عالمياً للأوراق التجارية    التوتر اضطراب طبيعي واستمراره خطر    دراسة تحذر من تأثير ضربات الرأس في كرة القدم    تداول يعوض خسارة بداية الأسبوع ويرتفع 135 نقطة    محمد بن سلمان: رؤية تُحوِّل الأحلام إلى حقائق    صحف عالمية: سالزبورغ خطف نقطة من الهلال    ختام مشاركة المملكة في معرض سيئول الدولي للكتاب    السدو.. نسيج الذاكرة ومرآة الهوية    6000 موقع عمراني جديد في السجل الوطني للتراث العمراني    نيفيز: فرطنا في فوز مستحق    وطن الشموخ    ترمب يدعو إيران لصناعة السلام    صناعتا الورق والمعدات الكهربائية تتصدران النمو الصناعي    افتتاح فعاليات منتدى الصناعة السعودي 2025    يرجى عدم المقاطعة!    تصعيد إيراني: ضربات تستهدف قواعد أمريكية في الخليج    قطر تعلن التصدي لصواريخ إيرانية والاحتفاظ ب"حق الرد المباشر"    قنصل إيران يشيد بجهود السعودية لتسهيل مغادرة حجاج بلاده    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأمير فيصل بن خالد    الجوازات تواصل إنهاء إجراءات مغادرة الحجاج عبر كافة المنافذ    "ومن أحياها" تستقطب 294 متبرعا بالدم خلال 3 أيام    إنزاغي راض عن أداء الهلال أمام سالزبورغ    موعد والقناة الناقلة لمباراة السعودية والمكسيك في الكأس الذهبية    "فلكية جدة": القمر يقترن ويحجب نجم الثريا    وزير الداخلية يستقبل سفير المملكة المتحدة    اقبلوا على الحياة بالجد والرضى تسعدوا    حملة لإبراز المواقع التاريخية في العاصمة المقدسة    ضبط مقيم لنقله 13 مخالفاً لنظام أمن الحدود    علقان التراثية    المملكة تختتم مشاركتها في معرض سيئول للكتاب.. الثقافة السعودية تعزز حضورها عالمياً    إطلاق النسخة ال5 من مبادرة السبت البنفسجي    نصائح لتجنب سرطان الجلد    أمراء ومسؤولون يؤدون صلاة الميت على مشعل بن عبدالله    نائب أمير الشرقية يعزي العطيشان    الجبهة الداخلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إدغار ألن بو: الجريمة غامضة والمجرم قرد عنيف
نشر في الحياة يوم 02 - 08 - 2011

منذ عقود من السنين وبفضل كتاب ومفكرين كبار أعادوا الى الأدب البوليسي اعتباره، لم يعد هذا النوع من الأدب القصصي يعتبر أدباً ثانوياً، ولم تعد شعبيته ورواجه يشتغلان ضده في نظر النخبة. فإذا أضفنا الى هذا أن السينما ثم التلفزة، قد ساهمتا في نشره الى حد كبير، يمكننا ان نفترض ان القرن العشرين كان، الى أمور اخرى، عصر ازدهار الأدب البوليسي. ومع هذا نعرف ان هذا الأدب لم يولد في القرن العشرين، بل قبل ذلك بزمن بعيد، وربما يكونون مصيبين اولئك الذين يعودون به الى أزمان موغلة في القدم. غير ان ما يجب التوقف عنده هنا هو أن الأدب البوليسي الحديث، بطابعه العقلاني الصرف واعتماده فنّ المنطق لحل الألغاز التي تشكل جوهره، إنما ولد في القرن التاسع عشر، القرن الذي شهد أقسى درجات ازدهار العقلانية في الفكر الإنساني، فلسفة ورسماً وأدباً وشعراً. وقد رأى كثر من الباحثين في شؤون الحضارة، أن الأدب البوليسي كان المكان الذي تجلت فيه العقلانية اكثر من اي مكان آخر، لأن هذا الأدب في طبيعته يفترض اللجوء الى التحليل المنطقي، وتحديداً لإيصال نصوص وحبكات تبدو، أول الأمر، وكأنها أبعد ما تكون عن المنطق. وإذا كان لفن الأدب البوليسي الرفيع أقطابه الكبار الذين توارثوه وبدت اعمالهم نابعة من بعضها بعضاً، ودخل ابطالهم (من امثال شرلوك هولمز وهركول بوارو) الأسطورة، فإن ما يمكن ان يقال في هذا السياق هو ان الأبوّة الشرعية لهذا النوع الأدبي، تعود الى واحد من اكبر الشعراء في تاريخ الأدب الأميركي، ومن اكبر الشعراء العالميين: ادغار ألن بو. فعلى رغم ان هذا الأمر يكاد يكون عصياً على التصديق بالنسبة الى محبي الشعر الصرف والأدب الراقي، يجمع مؤرخو الأدب البوليسي على أن بو هو الذي كانت البداية على يديه، وتحديداً عبر رواية كتبها ذات شهر سئم فيه، وشاء أن يجعل باريس ميداناً لها. وهذه الرواية الغريبة الرائدة، سرعان ما تلقفها القراء، ولكن ايضاً الكتاب، الذين راحوا يسيرون على منوالها ويكتبون، ولا يزالون حتى اليوم، اعمالاً تبتعد أو تقترب منها، لكنها تدين لها بالريادة. وهذه الرواية هي «الجريمة المزدوجة في شارع المشرحة». إذاً، مع هذه الرواية التي كتبها إدغار ألن بو في بداية اربعينات القرن قبل الماضي، ولد الأدب البوليسي الحديث... وأكثر من هذا: ولدت قوانينه وقواعده.
تبدأ الحكاية في باريس ذات ليلة من ليالي عام 1841. ففي الثالثة من صباح تلك الليلة يسمع اهل الحي في شارع المشرحة، همهمات وصرخات غريبة مرعبة، آتية من شقة في الطابق الرابع من بناية قديمة، وهي شقة تسكنها أرملة عجوز وابنتها. ويهرع الناس لرؤية ما يحدث ومحاولة انقاذ ما يمكن انقاذه، ويدفعون الباب المغلق من الداخل بإحكام، ليجابهوا مشهداً رهيباً: الامرأتان مقتولتان بطريقة وحشية، وقد خبئت جثة كل منهما الممزقة، واحدة في المدفأة مدلاة ورأسها الى الأسفل، والثانية في فناء صغير يقع خلف المبنى. وحين تصل الشرطة الى المكان للتحقيق يفاجأ افرادها بغرابة الأمر: فالشقة مغلقة من الداخل تماماً، ولا يبدو ان ثمة من اغتصب بابها اغتصاباً. أما في الخلف، فإن ثمة مبنى آخر، ونافذة تطل على الفناء، لكنها مرتفعة ولا يمكن أي كائن بشري ان يدخل منها أو يخرج. وأمام هذا الوضع الذي يصعب تفسيره تميل الشرطة الى حفظ القضية. وكاد ذلك يتم لولا تدخل قاضي التحقيق اوغوست دوبان، الذي يعيش عيش الكفاف منعزلاً بعد إفلاس، ومشركاً في شقته شاباً غريباً صادقه بعدما التقاه في ظروف غريبة هي الأخرى. وهذا الشاب هو الذي يلعب دور الراوي في هذه الرواية، تماما كما سيفعل لاحقاً الدكتور واطسون في روايات السير آرثر كونان دويل التي يتولى شارلوك هولمز التحريات فيها.
وإذ يحصل دوبان وصديقه على إذن بالتحقيق من مدير شرطة باريس، يبدآن بالتحري حول الأمر، وليس لديهما من سلاح سوى المنطق، وهمتهما في جمع الدلائل. ومن خلال ذلك التحري والسجالات المنطقية التي تقوم بينهما يبدآن تدريجاً بالتوصل الى حل اللغز، بادئين بافتراض ان القاتل (أو القتلة) إنما دخلوا الشقة عبر النافذة المطلة على الفناء الخلفي. ولكن كيف؟ هنا يتقدم المنطق مرة اخرى للوصول الى جواب، وهكذا انطلاقاً من محاججات قد تبدو مستحيلة الإمكان أول الأمر، نفهم سريعاً أن ليس هناك شيء يمكن ان نقول عنه انه مستحيل. وهكذا ينطلق دوبان وصديقه من كل دليل ولو صغير يعثران عليه: ما يقوله الجيران من سماعهم همهمات بلغة غريبة، الى الوبر الأحمر الذي يعثران عليه في يد احدى الضحيتين، إلى إدراكهما أن القوة المطلوبة لارتكاب الجريمة كان يجب ان تكون، بالضرورة، قوة تفوق قوة البشر الطبيعية، اضافة الى شريط معقود يعثر عليه دوبان ويتبين له ان عقدته بحرية من النوع المستخدم في جزيرة مالطا... وهكذا، على هذا الشكل المنطقي التدريجي يحل اللغز، ويكتشف التحريان ان القاتل لا يمكنه ان يكون سوى قرد من فصيلة اوران - اوتان، أفلت من مالكه وهو بحار مالطي كان أتى به الى باريس ليبيعه الى حديقة النباتات.
هذا السياق وهذا الحل قد يبدوان لنا على شيء من السذاجة والميكانيكية اليوم، بعدما وضع الكتّاب، في أزمان تالية لزمن ادغار ألن بو، ألوف الروايات، التي راح أبطالها المحققون يتنافسون ذكاء ومنطقاً. ولكن هذا لا ينفي صفة الريادة عن عمل اتسم منذ بدايته بخلقه القواعد الستة الذهبية التي يتعين اللجوء إليها من اجل تكوين لغز بوليسي ومن ثم حله. وهي قواعد، كما نلاحظ، تقوم على المنطق المجرد، أي على ما يمكن العقل البشري ان يتوصل إليه عبر استخدام المحاججة المنطقية، وهذه القواعد هي، كما وصفها واحد من أبرز قراء روايات ادغار ألن بو في فرنسا، فرانسوا فوسكا: 1- القضية التي تتمحور حبكة الرواية حولها، يجب ان تشمل لغزاً يبدو غير قابل للتفسير ظاهرياً. 2- هناك شخص، أو اشخاص عدة في وقت واحد، أو في شكل متتابع، تدور الظنون من حولهم، خطأ، لأن الدلائل والمؤشرات تشير إليهم، منذ البداية بوصفهم الفاعلين. 3- في النهاية يتمكن رصد دقيق للوقائع المادية والسيكولوجية، متبوع بدراسة ما يدلي به الشهود، وسط لجوء صارم ودقيق الى منهج منطقي، فيمكن هذا كله في النهاية من الانتصار على الآراء والمناهج المتسرعة التي تسود في البداية، وهنا من البديهي ان المحلل لا يخمن، بل يرصد ويحاجج عقلياً. 4- الحل، الذي يتلاءم تماماً مع قراءة الوقائع، يجب ان يكون غير متوقع. 5- كلما كانت القضية اكثر غرابة ظاهرياً، كان الحل الذي يتم التوصل إليه أكثر بساطة. 6- حين يتم استبعاد كل ضروب الاستحالة، فإن ما يتبقى لنا انما هو، ما كان يبدو في البداية غير قابل للتصديق: الحل الصحيح.
لقد كان ذلك كله من ابتكار ادغار ألن بو، لكن هذا الكاتب والشاعر الكبير لم يعرف طوال حياته بأنه كاتب بوليسي، بل عرف، كما سلف أن أشرنا، كشاعر كبير، حتى وإن كان خاض ايضاً كتابة القصص الغرائبية وحكايات الرعب القوطية، وكان من الرومنطيقية في شعره وحكاياته الغرائبية بحيث لم يكن من المنطقي لأحد ان يتصور أنه مبتدع شخصية ذلك التحري المنطقي الذي يرجح كفة العقل على أية كفة اخرى، وتلك الأساليب التي مهدت لمجيء أغاثا كريستي وأبلاري كوين وسي آرثر كونان دويل وموريس ليبلان، وعشرات غيرهم.
ولد ادغار ألن بو عام 1809 في بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية. وهو تيتّم منذ كان في الثانية فعاش في كنف تاجر ثري من ريتشموند (فرجينيا) مكّنه من الحصول على دراسة متميزة حصّلها في إنكلترا والولايات المتحدة. وآلن بو لم يحب اميركا أبداً، بل كان هواه اوروبياً ومعظم أدبه وشعره كذلك. وكان بودلير، مترجمه يقول عنه انه كان يحس اميركا سجناً كبيراً. مهما يكن عاش آلن بو حياة مغامرة وقمار وبؤس، ملأها كتابة وتجوالاً. وهو خاض الكثير من انواع الكتابة، اشتهرت من اعماله نصوص مثل «سقوط منزل آل آشر» وأشعار مثل مجموعة «العقرب» و «تيمورلنك وقصائد أخرى» و «حكايات غرائبية». وخصوصاً قصيدة «أوروكا» الطويلة التي تعتبر عمله الأكبر. وإدغار ألن بو وجد ميتاً ذات يوم من خريف عام 1849 مرمياً في أحد شوارع بالتيمور، وقيل انه قضى بفعل تناوله حبوباً مخدرة، وقيل بفعل تفاقم داء السكري عليه. لكن بودلير رأى أنه إنما «مات منتحراً انتحاراً ذهنياً حضّر نفسه له ومارسه طوال فترة من الزمن».
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.