«في وقت يتوزع فيه مقاتلون مِن ذوي الخبرة داخل سورية، وبين مجموعات من الجهاديين المحبطين ووسط فجوة في القيادة، فإن الاعتقاد بأن «القاعدة» يجلس فقط ويراقب، هو أمرٌ خاطئ ومحض غباء». هكذا عبَّر تقرير معهد الاستخبارات «سايت» المتخصص بمتابعة الحال الجهادية حول العالم عن واقع تنظيم «القاعدة» اليوم. لفت التقرير أيضاً إلى أن ذلك التنظيم يروج لما وصفه ب «حامل اللواء» حمزة بن لادن؛ الذي تلقى نداءاتُه تجاوب أجيال إرهابية جديدة. ظل تنظيم «القاعدة» يتسيَّد مشهد العنف الجهادي حول العالم بعمليات نوعية خطيرة، نفَّذها انطلاقاً من استراتيجية «أولوية العدو البعيد» التي رسمها منظروه كأبي مصعب السوري وقادته كأسامة بن لادن، والتي تعتمد جرَّ أميركا؛ القوة الأكبر في العالم، إلى المستنقع الأفغاني عبر استفزازها بعمليات في عقر دارها، أو مستهدفة مصالحها العسكرية أو ممثلياتها الديبلوماسية، كما جرى في تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام، أو تفجير المدمرة «كول» عند السواحل اليمنية، قبل أن ينفذ «القاعدة» العملية الأكبر في تاريخه والتي رسمت نتائجها واقعاً دولياً جديداً، برَّر بطش أميركا بحواضر العالم الإسلامي تحت دعاوى مكافحة الإرهاب. لكن جهد أميركا الأكبر اتجه إلى إعلان حرب كونية على تنظيم «القاعدة»؛ اعتمدت أساساً على جهد استخباري ضخم لرسم خريطة دقيقة عن قيادات التنظيم حول العالم، ما مكَّنها مِن تصفيتهم في اليمن وليبيا وغيرها من الأماكن التي نجحت في الوصول إليها، فضلاً عن المعارك العنيفة التي خاضتها في مواجهة التنظيم في أفغانستان وعلى الحدود مع باكستان. وكانت ذروة انتصارها تمكنها مِن قتل أسامة بن لادن في الثاني مِن أيار (مايو) 2012 والذي تواكب مع جملة تطورات ضربت المشهد في العراق الذي كان يرزح تحت الاحتلال الأميركي، ما كان له بالغ الأثر في قيادة الأمور باتجاه انحسار «القاعدة» ونفوذه وتأثيره، لحساب لاعب جديد ولد في العراق هو تنظيم «داعش» الذي يعد مشروع دولة انخرطت فيه التيارات الجهادية كافة بما فيها تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين». كان التنظيم الوليد يرى نفسه الجهاز الإداري والعسكري للدولة، كما أن عجز تنظيم «القاعدة» الأم عن حماية قادته المتخفين في الجبال الأفغانية والباكستانية وصعوبة التواصل الدائم جعل من الصعب إبقاء الأمور تحت السيطرة، إضافة إلى أن رحيل أسامة بن لادن واختفاء الصف الأول من القيادات مثل عطية الله الليبي وأبي مصعب السوري؛ واقتصار القيادة على أيمن الظواهري؛ أضعفَ تبعية تنظيم الدولة للقاعدة، بالتالي راح الأول يغمز من قناة الثاني بخصوص موقفه مِن إيران، وصولاً إلى إعلان الخلافة، التي تعني لديهم عدم شرعية أي تنظيمات أخرى غير تلك التي تبايع دولة الخلافة. وهو الأمر الذي وجد معه تنظيم «القاعدة» نفسه في دائرة التمرد، فرأى أنه ينبغي أن يسارع إلى مبايعة الخليفة والعمل تحت رايته، ما يعد انقلاباً في العلاقة بين الأب والابن، أو قل بين الأستاذ والتلميذ. كان بن لادن وقادة «القاعدة» يدركون أن «داعش» يسير في خط أيديولوجي مختلف، فهو لديهم أكثر تشدداً وجموداً في النظر إلى الواقع السياسي، ويتوسع في عمليات التفجير والتكفير وقتل مَن يختلف معه، ولديه تصور مختلف في التعامل مع إيران، ويعطي أولوية لمقاومة المشروع الشيعي، بينما يركز «القاعدة» على المفهوم العالمي للصدام وأولوية المواجهة مع أميركا. حاول الجميع ضرب ستار من الكتمان على تلك الخلافات وتجنب صدمة الانشقاق. في تلك الأثناء نجحت خطة «داعش» في دمج الفصائل المسلحة في شكل غير مباشر في إطار رؤيته عبر مجلس شورى المجاهدين، الذي كان عصبه الحقيقي تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وقد ابتعد «داعش» في النهاية عن خط تنظيم «القاعدة» أو خط البعث؛ أحد مكوناته، ليشكل هجيناً فكرياً وسلوكياً ناشئاً مِن هذا التزاوج بين الطرحين البعثي والقاعدي في صورة شديدة التعقيد وبالغة التطرف، إلى حد أن «داعش» نفسه انقسم على خلفية قضية عقدية حول العذر بالجهل بين «حازميين» و «بنعليين»، ما أفضى مع التشتت والهزيمة العسكرية وانهيار دويلة الخلافة، إلى التشظي الفكري الذي يجعل الطرف الذي يتوفر على إطار فكري أكثر تماسكاً ومن يملك سابقة في العمل المسلح قبل مرحلة الدولة، أجدر وأقدر على جمع هؤلاء في تنظيم واحد. يبدو تحذير «معهد سايت»؛ في مكانه إذاً مع الانهيار الحادث في صفوف تنظيم الدولة وقرب انهيار حلمه، بما يعيد الاعتبار في صفوف الجهاديين لسردية «القاعدة» التي ظلت تؤكد أن معركتها طويلة تحت عنوان النكاية وليس التمكين الذي لم تتحقق شروطه بعد. وهو ما يبدو واضحاً في عملية الواحات الأخيرة في مصر وهي بتوقيع تنظيم «القاعدة» الذي أعاد تنظيم صفوفه في الداخل الليبي، بعد تعدد العناوين السابقة: «أنصار الشريعة» أو «مجلس شورى المجاهدين» أو «سرت ودرنة». يشير الكثير مِن المعلومات الرسمية المصرية أن هشام العشماوي ضابط الصاعقة المصري المفصول وخليته التابعة للقاعدة، والذي يتحرك باستمرار بين ليبيا ومصر، هو مَن تزعم هذا الهجوم الذي يستلهم وصايا أبي مصعب السوري، في تشكيل سرايا جهادية صغيرة تتولى إنهاك الجيوش عبر عمليات مِن هذا النوع. يتأكد لنا ذلك عندما نعرف أن عشماوي رفض مبايعة «داعش» وأكد ولاءه لتنظيم «القاعدة» قبل ثلاثة أعوام، كانت كافية لتدشين عنوان «المرابطون»؛ وهو أحد العناوين الفرعية ل «القاعدة»، الذي يبدو أنه اختار أن يعلن عن وجوده عبر الساحة الليبية. * كاتب مصري.