الجمعة.. انطلاق الجولة التاسعة من دوري يلو    الفتح يكثّف تحضيراته قبل موقعة الهلال وسط موجة إصابات تضرب صفوفه    ولي العهد يبعث برقية شكر لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية إثر مغادرته واشنطن    هامات للنقليات تعزز حضورها في أكبر منصة لوجستية وطنية وترسم ملامح شراكات المستقبل    نائب أمير حائل يستقبل د.عبدالعزيز الفيصل ود.محمد الفيصل ويتسلم إهدائين من إصداراتهما    التخصصي و"عِلمي" يوقعان مذكرة تعاون لتعزيز التعليم والابتكار العلمي    8 فعاليات تخاطب زوار كأس نادي الصقور السعودي 2025 بالظهران    العوالي توقع اتفاقية مع سدكو لإنشاء صندوق عقاري بمليار ريال    تلال العقارية ومجموعة التميمي و"البلاد المالية" يوقّعون مذكرة تفاهم لتأسيس صندوق استثماري بقيمة 1.2 مليار ريال لتنفيذ المرحلة الأولى من مشروع "قلب الخبر"    هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم لقاء بعنوان (تحديات الأمن الوطني)    أمير تبوك يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة نجاح الزيارة التاريخية لسمو ولي العهد للولايات المتحدة الأمريكية    إثراء الشريك الثقافي في منتدى مسك العالمي 2025    أمين الطائف يبحث المشاريع الاستثمارية لشركة (وج) والاحتياجات التوسعية لأعمالها    أمير تبوك يستقبل مدير عام السجون بالمملكة    ولي العهد في واشنطن.. تحالف يتجدد ورؤية تتقدم    أمير تبوك يكرم شقيقين لأمانتهم ويقدم لهم مكافأة مجزية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لجمهورية الصومال    الأمير سعود بن نهار يشهد شراكة بين تجمُّع الطائف الصحي وجمعية "روماتيزم"    محافظ جدة وأمراء يواسون أسرة بن لادن في فقيدتهم    شراكتنا مع السعودية في أقوى مراحلها.. ترمب: ولي العهد من أعظم القادة في العالم    فلسطين تبلغ الأمم المتحدة باستمرار الانتهاكات الإسرائيلية    تعمل عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي.. درون وروبوت لمكافحة الحرائق بالمباني الشاهقة    الجوازات تستقبل المسافرين عبر مطار البحر الأحمر    إبراهيم إلى القفص الذهبي    وسط غموض ما بعد الحرب.. مشروع قرار يضغط على إيران للامتثال النووي    تامر حسني يكشف تفاصيل أزمته الصحية    مهرجان الديودراما المسرحي يحتفي بالثنائية الفنية    «وسم الثقافي» يكرم المعيبد    غارة إسرائيلية تقتل شخصاً وتصيب طلاباً.. استهداف عناصر من حزب الله جنوب لبنان    ثمن جهودهم خلال فترة عملهم.. وزير الداخلية: المتقاعدون عززوا أمن الوطن وسلامة المواطنين والمقيمين    ترخيص فوري للبيع على الخارطة    دراسة: دواء السكري يقلل فوائد التمارين    "منبهر" يحقق كأس الحفل الثالث    بولندا تنشر جيشها لحماية البنية التحتية الحيوية بعد هجوم على خط للسكك الحديدية    أثر مدهش من بيضة مجهولة    أمير الرياض يستقبل سفير المملكة المتحدة    «جامعة سطام» تطلق «خيمة ثقافات الشعوب»    «فنون العلا 5» ينطلق في تنوع فني وتجارب أدائية غامرة    20 بحثًا يعزّز التعاون الثقافي السعودي - الصيني    يايسله: المهمة أمام القادسية صعبة    14 ألف جولة رقابية على المساجد بالشمالية    فيصل بن مشعل يتسلّم تقرير لجنة الحج الفرعية    القبض على شخصين لترويجهما «القات المخدر»    «بيئة مكة».. جولات رقابية على الخضار والأسماك    عطارد يمر بين الأرض والشمس... اليوم    «الجوف الصحي» يقدّم الفحوصات الدورية المتنقلة    لماذا يبدع ضعيف الذاكرة؟!    "سورات وميرونك" يتصدّران افتتاح بطولة السعودية الدولية 2025 للجولف    120 ألف شخص حالة غياب عن الوعي    وزير الرياضة: رؤية 2030 أحدثت تحولًا جذريًا ورفعت عدد الاتحادات إلى 97 اتحادًا    احتكار الجو    عبء العلاقات الاجتماعية ثقل يتزايد بصمت    من تشجع في مباراة الفضاء؟    استثمارات جديدة في27 متنزها ومشتلا وطنيا    نائب أمير الرياض يُشرّف حفل سفارة بريطانيا لدى المملكة بمناسبة اليوم الوطني    5 أهداف للاتفاقية الدفاعية بين السعودية وأمريكا    حسن الظن بالله أساس الطمأنينة    استقبل وزير الحج ونائبه.. المفتي: القيادة حريصة على تيسير النسك لقاصدي الحرمين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمثولة حياة ألبير قصيري وآثاره في بحث فرنسي مثير
نشر في الحياة يوم 31 - 07 - 2017

لم يُحدِث الكاتب المصري الفرانكفوني ألبير قصيري (1913 - 2008) جلبةً كبيرة خلال حياته المديدة، على رغم روايات ثمان ومجموعة قصصية وأخرى شعرية كتبها بريشة ذهبية، وميله الكبير إلى الاحتفال والسهر، ومعاشرته اليومية لأبرز الوجوه الأدبية والفنية في باريس. ولتسليط الضوء على أمثولة هذه الحياة الاستثنائية المهدَّدة بالإهمال، وردّ بعضٍ من الاعتبار لصاحبها الذي رصد موهبته الكتابية الفريدة لمدح البساطة والكسل وكشف عبثية السعي خلف الأشياء المادّية، وضع الكاتب والباحث الفرنسي رودولف كريستان كتاباً حوله صدر حديثاً عن دار L'Echappée الباريسية تحت عنوان «صحراء الطموحات».
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن هذا البحث هو نصُّ اعترافات مراقبٍ بصير ومجرّد من الأوهام لعالمنا الراهن، وفي الوقت نفسه، بورتريه دقيق لقصيري كروائي جعل من الخمول قيمة مطلقة، وكخيميائي بحث وعثر على «ذهب الزمن» في حياة مجرَّدة من أي طموح. ولذك، يقول كريستان، حافظ صاحب «ألوان الدناءة» على وضعية الكاتب السرّي طوال حياته، ليس لأنه لم يكن قادراً على بلوغ الشهرة أو لأنه لم يكن يستحقّها، بل لأنه فضّل عليها العيش بطريقة تحول دون وضعه في خانة «الأحياء الأموات»، أي أولئك الكتّاب المشغولين دوماً بالتنافس والتصارع في ما بينهم لاحتلال موقعٍ متقدّمٍ تحت الأضواء.
وبالتالي، لم يسعَ كريستان، الذي سبق وفضح الضوضاء العقيمة والمدمِّرة لعالمنا الراهن في كتابٍ بعنوان «استنزاف العالم، نقد الغباوة السياحية»، إلى وضع سيرة تقليدية لقصيري، إذ كيف نكتب سيرة رجلٍ لم يفعل أي شيء ولم يرغب في فعل أو تملّك أي شيء؟ بل نسج، انطلاقاً من نصوص الكاتب، تأمّلات مثيرة في حياة أبطال رواياته. تأمّلات يستخلص القارئ بسهولة من خلالها بورتريه لكائن فريد عاش حياته تماماً مثل الشخصيات التي ابتكرها، أي في قناعة سعيدة.
وفي هذا السياق، لا تحمل فصول هذا البحث عناوين مثل «طفولة»، «مراهقة»، «نضج» و «شيخوخة»، بل «قناعة سعيدة»، «طرافة الحياة»، «قلب القِيَم»، «حياة وموت الثورات»، «سجن الحياة المدجَّنة»، «البطالة الجموحة والمبدعة»، «العيش بلا وظيفة» و «مديح التهرّب». عناوين تلخّص على أفضل وجه الرسالة الوحيدة التي كرّرها قصيري في كل أعماله، أي رفض المجتمع والعمل والزواج وأي قيد أو إكراه، من خلال شخصيات هامشية غنية بالألوان تعيش في القاهرة أو في الريف المصري. شخصيات يستعين كريستان بمواصفاتها ومواقفها لرسم شخصية مبتكرها واستخلاص وصاياه، مستنتجاً منهجه الوحيد، السخرية، ومستشهداً عند كل فرصة بفقرات من كتبه تحضر كما لو أنها بنود قانونٍ يتعذّر التشكيك بجدواه أو بجانبه السديد.
أكثر من ذلك، يعمد الباحث إلى كشف النقاط المشتركة بين قصيري وكتّاب وفنانين آخرين من زمنه، مثل الفيلسوف الروماني إميل سيوران والكاتب الأميركي هنري ميلر والفنان الروسي كازيمير ماليفيتش ومؤسس حركة «مبدعي الأوضاع» الفرنسي غي دوبور ومواطنه الفيلسوف كليمان روسّيه، علماً أن صاحب «شحّاذون وفخورون» كان يفضّل الاستشهاد بالكتّاب الروس، وفي مقدّمهم إيفان غونتشاروف، وبرواية الكاتب الألماني توماس مان «الجبل السحري» التي قرأها مرات عديدة وكتب صاحبها فيها: «أن نرفض العمل لحساب شخصٍ آخر هي وسيلة ناجعة لبلوغ حرّيتنا. (...) بتقاضينا أجراً مقابل أي جهد، ندفع كل يوم كلفة حياةٍ مُنحت لنا مجاناً».
ويمكننا أن نضيف على الأسماء المذكورة أسماءً أخرى كثيرة تربط أصحابها قرابةٌ أكيدة مع قصيري، مثل الكاتب الإسكوتلندي روبرت لويس ستيفنسون الذي ذكّر مراراً بأن القدرة على البطالة هي سمةُ طبيعةٍ غنيّة ووعيٍ حادٍّ لهويةٍ فريدة، أو الكاتب الألماني روبرت فالسِر الذي أقرّ بأن طموحه الوحيد هو أن يكون «صِفراً مدوّراً»، أو الكاتب النروجي كنوت هامسون الذي ابتكر في رواياته وقصصه شخصيات متشرِّدة ترفض الانصياع لإكراهات المجتمع، من دون أن ننسى العملاق هيرمان هيسّه الذي وضع بحثاً بعنوان «فنّ البطالة» وسيّر في رواياته شخصيات تستبدل الحياة المنمَّطة بالتسكّع المنير.
لكن ما يميّز صاحب «طموح في الصحراء»، في نظر كريستان، ويجعل منه سيّد «التحرّر من أي التزام» هو عدم اكتفائه بالترويج لأفكاره الثورية في رواياته، بل التزامه بها ووضعه قيَم البساطة والبطالة والكسل التي رفعها موضع التنفيذ في حياته بالذات التي تشكّل خير نموذجٍ لانعتاقٍ راديكالي من القيود الاجتماعية وإغراءات العالم.
لكن هذا لا يعني أن قصيري التزم هذه الوضعية منذ صباه، فرواياته الأولى تحمل شحنةً عدائية ضارية لا يمكن تجاهلها تجاه المجتمع وخصوصاً تجاه السلطات الحاكمة. وإذ يبالغ بعض النقّاد في اعتباره كاتباً عربياً تنبّأ ومهّد لحدوث الثورات العربية الأخيرة، لا نخطئ في استشفاف توقٍ إلى التمرّد ودعوة إلى العصيان الشعبي في الجزء الأول من أعماله، قبل أن يختار السخرية كسلاحٍ وحيد في أعماله اللاحقة فتتوارى أي رغبة لديه في زعزعة السلطة أو الانتقام منها. وفعلاً، لن يبلث صاحب «العنف والسخرية» أن يفضّل على التمرّد المسلّح الاسترخاء الفردي والخمول المثالي في عالمٍ تسعى السلطات فيه إلى التحكّم بحياة كل فرد، مستعينةً بالعمل كأفضل وسيلة لبلوغ غايتها.
يبقى أن نشير إلى أن كريستان يشحذ في بحثه أسلوباً حادّاً وشديد الحساسية من أجل محاصرة قصيري الإنسان، ويلجأ إلى زوايا مقارَبة مختلفة من أجل كشف جانبه المبدِع. ولكن أبعد من التأمّل الثاقب في آثار هذا العملاق وحياته، يشكّل هذا البحث خصوصاً دعوة إلى التحرر من المجتمع المادّي الراهن بكل ارتهاناته وإغراءاته، من أجل العثور، داخل البساطة والترفّع، على طُرُق أخرى للحياة.
الملاحظة السلبية الوحيدة التي نسجّلها على هذا البحث هو أن صاحبه نسي أن يقول إنّ ما سمح لقصيري برفض العمل والاكتفاء بالقليل في حياته هو وضعه الاجتماعي بالذات كبرجوازي مصري كان يتمتّع بإيراد ثابت من عائلته، مهما كان متواضعاً، وأيضاً وضعه كمثقّف كان يعيش داخل محيط فكري وأدبي باريسي وفّر له المساعدة في كل مرة احتاجها. وبالتالي، قليلون جداً هم الأشخاص اليوم القادرون على العيش مثله في عالمٍ لن يتغيّر إلا إذا عملنا جميعاً على تغييره.
ومع ذلك، لا نخفي على القارئ أن معاشرة قصيري الحميمة التي يسمح بها هذا البحث تمنحنا في نهايته الرغبة في الاستسلام لقيلولة مريحة تحت الشمس، غير مكترثين لضوضاء العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.