يتساءل أهالي جدة مع أول ذكرى لكارثة الأربعاء الأسود، سكبت عليهم مطراً غزيراً: هل كُسر الحاجز النفسي مع المطر؟ وهل ستفيق صباحاتهم المقبلة من دون خوفٍ أو وجل من سحابة تظلل سماءهم، فتحيل الأرض إلى بحيرة ضخمة من المياه؟ مشهد المدينة يوم الخميس الماضي لم يوح بذلك، ساعتان من المطر أعلنتا حال طوارئ واستنفار، فالناس في شرق جدة محتجزون، والمياه تحاصر منازلهم، فرق الدفاع المدني في الأرض والسماء تخلي وتنقذ، بحارُ من المياه تجمعت فأعاقت الحركة، ولم يتبق ل«جدة» سوى أن تظهر في الأقمار الصناعية كمدينة ترقد على الماء، الذي يطوقها ويسكن يابستها. يعتقد رئيس قسم الطب النفسي في المستشفى العسكري بالرياض الدكتور فهد اليحيى أن الناس الذين يرون في هطول الأمطار الغزيرة تهديداً مباشراً لحياتهم، أو يشاهدون غيرهم يتعرض للتهديد، (كحوادث الوفاة أو الغرق)، يتعرضون لما يسمى ب«تناذر ما بعد الصدمة»، وهي مجموعة أعراض عصبية تشل من الأداء الوظيفي والنفسي والاجتماعي، وتجعل الشخص معرضاً للكوابيس والذكريات المؤلمة، فيعيش فترات يعاود فيها معايشة الصدمة وما تعرض له، وكأنه يعيش الحال بكل تفاصيلها مرة أخرى. ويضيف: «عندما تتكرر الظروف مرة أخرى، تظهر الأعراض بصورة حادة، أما من فقدوا أحبة أو أعزاء عليهم، فقد يحدث لهم «ابتئاس الفقد المزمن»، فعند حدوث ذكرى مؤلمة كهطول الأمطار بغزارة بعد مرور أكثر من عام على كارثة جدة، تعود لهم الأحاسيس والأفكار نفسها، ويستعيد العقل الباطن مشاعر الحزن والاكتئاب». ويشخص اليحيى حال من تعرضوا لضغوطات وقت المطر (من حاصرته المياه في منزله، أو حاول الخروج من سيارته وإنقاذ عائلته ولم يستطع)، بقوله: «هؤلاء يتولد لديهم رد فعل حاد للظرف الضاغط». ويرى ضرورة وجود مركز لإدارة الأزمات والكوارث، تضاف إلى مهماته التحذيرية والإنقاذية والتوعوية، مهمة العلاج الجماعي والذي تمارسه الجهات الصحية، «لابد من توافر علاج جماعي داعم للمعرضين للضغط النفسي، فعندما يجتمع هؤلاء، ويتحدثون عن تجاربهم الأليمة، يشعر البعض بالتكاتف وأنه ليس الوحيد الذي يعاني من هذا الشعور، فيشعر بالأمان، وربما يتولد لديه حافز للتعافي عندما يشعر بحال التحسن التي بدت على زملائه»، مشيراً إلى أن البرامج العلاجية المتعلقة بالجانب النفسي هي برامج رئيسة ضمن خطط إدارة الكوارث في كثير من مناطق العالم التي تتعرض دائماً لأعاصير أو فيضانات، «في كل ولاية أو مدينة أميركية، تتوافر خطط جاهزة تكون الصحة النفسية جزءاً أصيلاً منها، ويعتاد الممارسون الصحيون فيها التدريب دورياً على متابعة الحالات النفسية وكيفية التعامل معها وعلاجها». من جهته، أشار كبير استشاريي الطب النفسي في مستشفى الصحة النفسية بجدة عضو الجمعية السعودية للطب النفسي الدكتور سعد الخطيب إلى أن الجمعية نجحت في علاج بعض الحالات التي كانت تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة إثر كارثة سيول جدة العام قبل الماضي، مستدركاً: «30 في المئة من هؤلاء قد يعانون مع أول ذكرى للأمطار من انتكاسة، ويحتاجون إلى فترات طويلة للتعافي الكامل، فربما يستمع أحدهم لصوت الرعد أو البرق، فيتولد لديه مؤشر للخوف والفزع يعيد الذكريات الأليمة». وأضاف: «الحالات التي تلقت العلاج لدينا في الجمعية لم تتجاوز 100 حال، وغالبيتهم لن يستطيعوا كسر الحاجز النفسي، بل تبقى لديهم رواسب ما لم ينتظموا في العلاج الطويل». وانتقد الخطيب الجهود المختلفة لفرق الدعم النفسي بعد كارثة سيول جدة، وقال: «لم يكن علاج اضطراب ما بعد الصدمة بالصورة السليمة، إذ ينقصها توحيد الجهود ووجود هيئة تشرف على عملها بطريقة علمية مدروسة، حتى لا تقدم الخدمات من دون نتائج مؤكدة».