بينما ينشغل الإعلام بالحصول على صور حصرية، والدول منغمسة إما في مواجهة ما تتعرض له من إرهاب أو ما تخطط له من ترهيب، والجماعات المسلحة مأخوذة بتجنيد هؤلاء وذبح أولئك، يقبع الشباب والشابات في زاوية هي الأكبر مساحة، لكنها الأخفض صوتاً. يتابعون ما يجري حولهم حيناً، ويبتعدون اختيارياً أحياناً، ويقبعون دائماً في منطقة يحاولون التعايش فيها مع الأوضاع. التعايش المبتغى تلى مرحلة قصيرة ظنوا خلالها أن اليد العليا باتت لهم، وذلك في أعقاب ثورات الربيع العربي. انزلقت المنطقة في توليفة منتقاة من الحروب الأهلية والاقتتالات الإقليمية والتناحرات الدينية. ومن لم يقع في براثن رياح التغيير من مصادر هبوبها، لسعته شظاياها المتطايرة عبر الحدود. وعلى رغم هزيمة المنطق في ما تمر به دول عدة في المنطقة العربية، إلا أن ما جاء في تقرير التنمية البشرية العربية الأخير والمتعلق بالشباب العربي «الشباب وآفاق التنمية في واقع متغير» يدعو إلى التوقف عنده ملياً، واعتبار ما لفت الانتباه إليه من آثار النزاع والعنف الدائرين في العديد من الدول العربية في الشباب أمراً يستدعي الاهتمام. مع الأخذ في الاعتبار أن المسح الخاص بالقيم والهويات والمشاركات المدنية للشباب العرب قد يكون نقطة انطلاق سريعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وعلى رغم أن الفصل المعنون «الشباب في بلدان مزقتها الحرب» يركز في المقام الأول على بلدان طال فيها أمد الحرب أو النزاع المدني أو الاحتلال وأبرزها السودان وسورية والصومال والعراقوفلسطين واليمن، إلا أن نواقيس الخطر تكاد تكون متطابقة في المنطقة برمتها. فمن آثار فورية وطويلة الأمد في صحة الشباب ورفاههم ما يستحيل معه تحقيق إمكاناتهم تحت وطأة صحة عليلة، إلى ركود أو تراجع متوسط العمر المتوقع عند الولادة ومتوسط العمر الصحي المتوقع بسبب ظروف الحرب والقتال وتدمير البنى التحتي الصحية التي تلقي بآثارها الأعتى على الشباب والصغار- وفي شكل أكبر على الإناث- الذين يحرمون من رعاية صحية مطلوبة حتى في الدول التي أوشكت على طي صفحات الصراع. صفحات الصراع وإن طويت ستخلف آثاراً عميقة في صحة الشباب العقلية. ووفق خبراء الطب النفسي، فإن الأذى الذي يسببه العنف السياسي لصحة الشباب النفسية معروف جداً. ويبدو انتشار اضطرابات الاكتئاب في المنطقة بين الشباب الذين يفقدون 1.3 في المئة من سنوات عمرهم بسببه. في العراق، أجريت مسوحات عدة عن الصحة العقلية ركزت على اضطراب «اكتئاب ما بعد الصدمة» (PTSD) مع العلم أنه وبسبب تدمير البنية التحتية الصحية في العراق تدميراً شبه كامل، انعدمت أدوات التشخيص أصلاً. النتائج التي جرت على عينة وطنية لمواطنين عراقيين فوق سن ال 18 في إحدى الدراسات أثبتت أن الغالبية من المصابين بقلق أو اضطراب سلوكي عانوا بداية المرض وقت دخولهم مرحلة الشباب، وأن اضطراب الهلع وما بعد الصدمة أظهر تفشياً في الفئة العمرية الواقعة بين 18 و34 سنة. والوضع في فلسطين ليس أحسن حالاً وإن كان اعتياد الآثار العقلية والنفسية يجعله أكثر هدوءاً. فمن بين 229 مراهقاً شاركوا في دراسة طبية تكون لدى 69 في المئة اضطراب ما بعد الصدمة، وعانى 40 في المئة من مستويات اكتئاب متوسطة إلى شديدة. وشهد ما يزيد على 80 في المئة من المراهقين إطلاق نار، ورأى أكثر من 60 في المئة أفراداً من أسرهم يصابون أو يقتلون. ومن القتل بالنار إلى القتل بقلة التعليم وشح فرص العمل. التقرير المهم يلفت إلى أن الخسائر الناجمة عن النزاع على التعليم تكون ذات وقع مزدوج. فهي تخفض الإنتاجية بين أفراد الجيل المتكبد الخسارة، وهو ما يحد من الفرص الاقتصادية المتاحة لهم. ليس هذا فقط، بل تؤدي إلى استمرار شبح التوتر واندلاع الصراعات المسلحة الناجمة عن الخسائر الاقتصادية. ومن سورية التي كانت قد حققت معدل التحاق صافياً في التعليم الابتدائي 93 في المئة وفي الثانوي 67 في المئة هبطا بحلول عام 2013 إلى 62 و44 في المئة، إلى العراق حيث تسببت سنوات الحرب والعنف والعقوبات في تزايد الأمية بين الشباب في الفئة العمرية بين 15 و29 سنة و20 في المئة بين الشابات. بل إن التحصيل العلمي بين الرجال المولودين في الستينات أعلى مما هو عليه بين الفئات الأصغر سناً. الأصغر سناً في مناطق النزاع والحروب هم الأكثر عرضة للتجنيد من قبل الجماعات المسلحة. وكما نبه التقرير فإنه إذا كانت المقولة القديمة تشير إلى أن الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب، فإن الثقة هي الضحية الثانية. فالحرب والنزاع العنيف ينقصان الثقة الاجتماعية والسياسية ويقلصان حجم المشاركة السياسية في المجتمعات، لا سيما بين الشباب. ويشار إلى أن التعرض للعنف يمكن أن يقلل الثقة بالمؤسسات السياسية التي تفشل في ضمان الأمن العام، وهو ما يؤدي إلى لامبالاة سياسية. والأهم أنه إذا كانت مؤسسات الدولة غير قادرة على توفير نظام سياسي أو وظائف يصبح من الممكن جذب الشباب إلى جماعات متطرفة أو أيديولوجياتها لتملأ فراغاً كان موجوداً. هذا الفراغ المتمثل في انعدام الرضا وارتفاع مستوى الرغبة في التعبير عن الذات بين الشباب العربي. ويشير التقرير إلى أنه على رغم بروز جماعات «إسلامية راديكالية» إلا أن الآراء السائدة في أوساط الشباب العربي متنوعة ودينامية، مستنداً إلى العوامل التي أدت إلى انتفاضات التغيير في عام 2011. هذه الانتفاضات، وبغض النظر عما آلت إليه، مثلت منحى عربياً جديداً مقارنة بأيديولوجيات الماضي، وربما تؤذن بحقبة ثقافية جديدة في المنطقة. نقطة ضوء أخرى في وسط العتمة تشير إلى أن المنطقة تحركت في السنوات القليلة الماضية صوب أفكار أكثر انفتاحاً مثل دعم المساواة بين الجنسين وارتفاع مستوى المشاركة المدنية. ولكن التقرير يلفت في المقابل الى أن الشباب العربي يبقى متمسكاً بقدر من المحافظة يفوق أقرانه في مناطق أخرى من العالم، كما يبدو أثر التعليم التمكيني أقل قوة ما يعكس طبيعة المجتمع المحافظة. الحفاظ على قيم بعينها أو تقاليد تبدو جامدة لم تعرقلا أحد أهم المتغيرات بين الفئات الشبابية في المنطقة العربية منذ هبوب رياح الربيع. فالآراء تتغير وفق مجريات السياسة وتقلبت على نحو جلي منذ الانتفاضات. «واحد تحرري يتجلى على نحو خاص بمساواة أكبر بين الجنسين وانحسار طاعة السلطة. وواحد محافظ ويتملكه الخوف من الفوضى والتغيير المتسارع ويتمثل في هبوط مستوى مساندة الديموقراطية وزيادة نسبة دعم الحكم القوي. وصارت القيم أكثر انقساماً وفق أسس طبقية. النزعات الحداثية بين الأرفع تعليماً وثراء حيدت، والمظالم في صفوف الفقراء تصاعدت، ما يوحي بأن الصراع على توزيع الدخل قد يتعاظم. وبعد انتفاضات 2011، تولت تنظيمات الإسلام السياسي الحكم فترة وجيزة (في مصر بالدرجة الأولى)، بيد أن ذلك الحكم أدى إلى انحسار الدعم للإسلام السياسي بين الشعوب، وظهور مجتمع أكثر استقطاباً حول دور الدين وقيم المساواة بين الجنسين وقيم التسامح الاجتماعي. وأدى هذا الاستقطاب في شأن قضايا الهوية إلى تحويل الانتباه عن التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.