كتبتُ ذات يوم في حسابي على منصة (X) عن خطورة التصنيفات المذهبية والنبز بها، خاصة عندما تتلبس أردية التضليل والتبديع، وصولاً إلى التكفير المتبادل، واستعنتُ بقول الله تعالى «إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون»، قائلاً ما معناه إن الله تعالى هو الذي يفصل بين الجميع يوم القيامة، ومن ثم فليس من حق أصحاب مذهب معين أن يضللوا، فضلاً عن أن يكفروا أصحاب مذهب مخالف لهم بدعوى أنهم أي المُضَللِّون على الحق ومخالفوهم على الباطل؛ إضافة إلى ما يحمله خطاب التكفير من بذور الاحتراب المجتمعي، وتقويض دعائم السلم والأمن الاجتماعي، والقضاء على سبل التنمية المستدامة، ومن ثم الدفع بالأوطان نحو هاوية القتل والقتل المضاد على الهوية!. كان المظنون أن تستحوذ تلك الدعوة على إجماع من يقرؤون ما كتبته هناك، نسبة إلى الضبط الرسمي الصارم لخطاب التشدد، ومحاصرة خطاب التكفير، ولجم متولي كبره، ممن دأبوا خلال مرحلة ماضية على إسكات مَن يخالفهم حتى في فروع العقائد بسلاح التضليل والتفسيق، وصولاً إلى التكفير إن استمر «المخالف» بالإمعان في مخالفته إياهم في آرائهم، إلا أن الأمر لم يكن وفق الصورة الوردية التي رسمتُها، سيما وقد قضيت زمنًا ليس بالقصير لم أخض غمار نقد الخطاب المتشدد. صحيح أن ثمة غالبية معقولة تقف ضد خطاب التكفير بجملته، إلا أن الواقع يؤكد أن ثمة أصواتًا لا تزال تحتفي بذلك الخطاب، بل تراه من موجبات كمال التدين؛ وصحيح أيضًا أن خطاب التكفير والتهم الملتحفة به من زندقة وعلمنة ولبرلة محاصر بقبضة رسمية مباركة، إلا أن الحمولة الثقافية القيمية الجمعية لا تزال تحتفظ برأسمال رمزي ضخم من موجبات ذلك الخطاب الذي تربى في محاضنه فترة طويلة، ومن الصعب أن يزول بين عشية وضحاها. أظن أننا بحاجة ماسة إلى خطاب يؤسس في الذاكرة الجمعية منحى آخر مهمًا في سيرورة مكافحة خطاب التكفير، هذا المنحى يقوم على (طَرْق) اللاوعي الجمعي بأن التكفير، سواء تكفير الأعيان أو تكفير المذاهب، هو حكم سيادي للحاكم وحده. لماذا هو حكم سيادي؟ لأن التكفير، خاصة تكفير الأعيان لا يتم شرعاً إلا عند توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، وهذه مما أجمع عليها المسلمون، خاصة أهل السنة والجماعة. وهذه الشروط، خاصة انتفاء الموانع لا يمكن التأكد منها إلا بإجبار الشخص المتهم على المثول أمام جهة تتحقق من توفر شروط تكفيره وانتفاء موانعه عنه؛ ولا يملك الإجبار هنا إلا الحكومة، أو إحدى جهاتها المكلفة بذلك، كالنيابة العامة والقضاء. ومن ثم والحالة هذه، لا يجوز إطلاقاً بإجماع المسلمين أن يُرمى أحدٌ بالكفر دون أن تنتفي عنه موانعه وتتحقق فيه شروطه التي لا يمكن لآحاد الناس أو جمعهم أن يجبروا الشخص المتهم على الإفصاح عنها؛ وتبقى الحكومة وحدها مسؤولة عن هذا الأمر بصفته حقاً سياديا يشبه حق نزع الجنسية عن مواطن سبق أن اكتسبها. في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يُحكم على أحد بالكفر إلا بعد أن يقرر الرسول الكريم نفسه ذلك، بعد أن يتلقى وحيًا من ربه. وكان في المدينة وقتها عدد من المنافقين الذين يعرفهم الصحابة بأعيانهم ممن مردوا على النفاق، لكن أحداً من الصحابة الكرام لم يرمهم بالكفر، لأنهم يؤمنون بأن التكفير حق لله ولرسوله. وعندما التحق الرسول بالرفيق الأعلى انتقلت صلاحية الحكم بالكفر إلى الخليفة، بصفته نائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه لا يوحى إليه، إلا أن الحكم بالكفر حينها انعقد للخليفة في مجلس خاص، أو للقاضي بصفته نائباً عنه. ولم يحدث أن آحاد الصحابة أو جمعًا منهم -رضي الله عنهم- انفردوا دون الخليفة أو القاضي بتكفير فرد أو جماعة لأنهم قالوا كذا وكذا. إلا أنه خلف من بعدهم خلف شغلتهم جدالات ما اُصطلح عليه ب(فروع العقائد) التي جاءت في أغلبها مع شيوع علم الكلام في الساحة الإسلامية، فأصبح التكفير والتكفير المضاد هو السلاح الماضي الذي تحارب به الجماعات وأصحاب المذاهب بعضها. ولا مناص من العودة إلى المنبع الصافي واتباع منهجه، ومنه حصر التكفير، سواءً بحق الأعيان أو بحق الجماعات والمذاهب، في الحكومة، أو في جهاتها الرسمية بصفتها وكيلاً عنها، مع فرض عقوبات صارمة على من يُكَفِّر أشخاصًا أو مذاهب أو جماعات، بصفته تعديًا على سلطة سيادية. ولله الأمر من قبل ومن بعد.