يقول المثل الصيني: «عندما يشير الحكيم إلى القمر، ينظر الأحمق إلى الإصبع». لكن يبدو أن بعض الفلاسفة – وبعضهم من «النُخب» الثقيلة على الفكر كالرصاص على الرئة – لم يكتفوا بالنظر إلى الإصبع، بل شرعوا في نحت تمثال له، ونسيان القمر تمامًا. في مختارات سيفيرينو «الإصبع والقمر»، يُعيد فيلسوفنا الإيطالي اختراع العجلة – لكن هذه المرة، العجلة مصنوعة من العدم. فالعالم، بحسب سيفيرينو، ليس سوى مسرحية عبثية من «الوجود- العدم- الوجود»، كما لو أن هدم الأشياء هو السبيل الوحيد لنشعر بأننا أحياء. ألا يذكرنا هذا بعبارة ألبير كامو الساخرة: «الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه»؟ سيفيرينو – بإصرار لا يُحسد عليه – يؤمن بأن العقل الغربي، منذ أفلاطون وحتى ماركس، كان ضحية لإدمانٍ فلسفي يُدعى: اللاشيء. يقول إن الجميع، من الحطّاب إلى هيجل، يعانون من نوعٍ من عمى أفلاطوني، لا يرون إلا الظلال، ويتخيلون أن الأشياء التي يولدونها بأيديهم هي أشياء حقيقية، بينما هي في الحقيقة، على حد زعمه، توازن مؤقت بين الوجود والعدم. توازن هشّ، كقهوة إسبريسو فوق لوحة مفاتيح ماك بوك في مقهى يضجّ بالمثقفين المزيفين. ثم يأتي ماركس، ذلك الرجل ذو اللحية الكثيفة واليقين الأثخن، ليحوّل السمك والخشب والمعدن إلى أشياء اصطناعية بواسطة «العمل». لكن سيفيرينو – الغارق حتى أذنيه في الشك البارمنيدي – يرفض هذا التحول الحرفي. العمل عنده ليس خلقًا، بل تمويه مأساوي لنهاية محتمة. إنه فخ العدم متنكرًا في هيئة نشاط بشري نبيل. كما قال بيكيت: «نولد جميعًا مجانًا، لكن نموت مكبّلين». ماركس، بسذاجة العامل الذي يعتقد أن النسيج أكثر ديمومة من الخيط، يكتب: «المنتَج هو تجسيد لعمل الإنسان، فيه تظهر حركة العامل كشيء ثابت». ما أجمله من تصريح، لو لم يكن يتحدث عن موت الأسماك والفؤوس المسنونة على عنق الطبيعة. أما هايدغر، فهو فيلسوف من طراز آخر. رجل لم يعجبه لا الإصبع ولا القمر، بل أراد أن يتأمل في العدم كأنه قطعة فنية على جدار معرض حداثي في برلين. فبينما ماركس يحوّل الأشياء إلى أشياء عبر العمل، هايدجر يعلن بصوت رخيم كراهب متصوف: «الشيء يعيش قبل أن يُستَعمل، وهو موجود لأنه يُظهر نفسه». الفلسفة، عنده، ليست تفسيرًا للعالم، بل ندبة على جبين الحداثة. كما قال نيتشه: «الحقائق ليست إلا أوهامًا نسينا أنها كذلك». يبدو أن الخلاف بين هايدجر وسيفيرينو هو خلاف بين كاهنَين يقفان أمام مذبح التكنولوجيا، أحدهما يلعنها لأنها تسلب الروح، والآخر يلعن الروح لأنها قادتنا إلى اختراع التكنولوجيا. الفارق؟ الأول يخاف من زر التشغيل، والثاني من فكرة أن هناك شيئًا ما يمكن تشغيله أصلًا. ويستمر سيفيرينو في عزف سمفونيته المأساوية، التي تصل ذروتها حين يضع الأشياء – نعم، الأشياء! – في مرتبة الإنسان، فينسب لها «ألم الصيرورة» ومعاناة الموت، كما لو أن الغلاية الكهربائية تشعر بالحزن عند غلي الماء. كافكا نفسه ما كان ليجرؤ على هذا الإسقاط العاطفي: «الحياة حربٌ مع النوم، والموت هدنة قصيرة». وفي لحظة درامية، يستدعي الشاعر باسكولي صورة أوديسيوس الذي عاد من البحر حاملًا ذكرى الحب، فوجد أن البحر لم يعد هو البحر، وأن الحياة، على الأرجح، كانت مجرد خدعة بصريّة من نوع «مايا» الهندوسي. صرخ باسكولي: «لا تكن! لا شيء أكثر، ولكن موت أقل، من أن تكون!» — وكأن الموت صار أخف وزنًا من الحياة نفسها، وهي مفارقة تستحق جائزة نوبل في اليأس. في الختام، نعود إلى الإصبع والقمر. الفلاسفة يشيرون، والمثقفون ينظرون، والناس يموتون – موتًا رمزيًا، مفاهيميًا، وأحيانًا فيزيائيًا – بينما تستمر التكنولوجيا في طحن الأخشاب والأسماك، غير آبهة بمقولات هايدغر أو بكاء باسكولي. ولا عزاء سوى في حكمة أوسكار وايلد: «الفكر الحر هو الفخ الأخير الذي نصبته الحياة كي لا نفهم شيئًا على الإطلاق».