«التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    برعاية الملك.. انطلاق مؤتمر مستقبل الطيران في الرياض.. اليوم    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحاجة إلى علم جديد ... المواجهة بين التراث والحداثة
نشر في الحياة يوم 08 - 04 - 2017

يتربّع سيد حسين نصر (طهران 1933)، أستاذ كرسي الأديان بجامعة جورج واشنطن، على عرش ثلّة من المفكرين المعاصرين الذين أسهموا في شكل كبير في الوعي بالإسلام: تاريخاً، وحضارة، وفلسفة. وقد ارتحل إلى الولايات المتحدة الأميركية في سن مبكرة حيث لم يتخطّ الثانية عشرة من عمره، وهنالك حصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء، فالماجستير في الجيولوجيا والجغرافيا الفيزيائية، ثمّ الدكتوراه في الفلسفة وتاريخ العلوم من جامعة هارفارد تحت إشراف كلٍّ من: برنارد كوهين (1914- 2003)، وهاملتون جيب (1895- 1971)، وهاري ولفسون (1887- 1947). كما تأثّر كثيراً بدروس الفيلسوف الإيطالي جورجي سانتَيانا (1863- 1952)، وكتابات رينيه جينو [عبد الواحد يحيى] (1886- 1951) التي كان لها الأثر البالغ في فكره الذي تميّز بنظريته النقدية للحداثة وتأثيراتها السّلبية في حياة الإنسان.
بعد حصوله على درجة الدكتوراه عاد نصر إلى إيران في عام 1958، وعمل أستاذاً في جامعة طهران حتى العام 1979، ثم رئيساً لها في الفترة (1968-1972)، كما ترأس جامعة آريامهر الصناعية (جامعة شريف حالياً) في الفترة (1972-1975)، وشغل مناصب عدّة، منها: رئاسته لمجلس إدارة مؤسسة العمران الإقليمي (التي كانت تضم إيران وتركيا والباكستان)، وكذلك كان عضواً في أكاديمية العلوم الإيرانية، وعضواً في المجلس الوطني للتعليم العالي، وأستاذاً زائراً في الجامعات الغربية: هارفارد وبرنستون وغيرها.
ومن أبرز مؤلفاته: «المعرفة والمقدَّس»، «ثلاثة حكماء مسلمين: ابن سينا، السهروردي، ابن عربي»، «مقدّمة إلى العقائد الكونية»، «دراسات إسلامية»، «الإسلام أهدافه وحقائقه»، «الحاجة إلى علم مقدس» والذي صدر أخيراً بترجمة د. حمادة أحمد علي وعمر نور الدّين، وتصدير د. مصطفى النشَّار (القاهرة: نيو بوك للنشر والتوزيع، 2017).
بحكم انتمائه لمدرسة «الحكمة الخالدة» التي تُعْنى بالتُّراث - كما فسَّرَهُ أساتذة التُّراث وشارِحوهُ في «مدرسة التُّراثيين»: كالشَّيخ عبد الواحد يحيى، والشيخ أبو بكر سراج الدين وغيرهما- يولي سيد حسين نصر عناية خاصّة بمسائل الدين وما يرتبط بها من قضايا الوحي والإنسان والألوهية. ومن شأن هذه النّظرة الواسعة للدّين أن تفتح أبواب الفهم على طول وعرض الأديان الأخرى، وتحلّ تعقيد المسائل العالقة، وتفسّر معنى تعدّد الأديان وعلائقها المختلفة، فضلاً عن عدم إغفالها الجوانب الاجتماعية والنفسية للأديان بصفة عامة. ووفق المؤلِّف، فإنّ المقصود بالعلم الأسْمى، العلم المقدَّس، ذلك الذي يبحث تجلّيات «المبدأ الرَّباني» في نور المبدأ ذاته؛ وهو ما تمكن تسميتُه بعلم «الإلهيات»، فهو العلم الذي يبطنُ في مركز كيان الإنسان ذاته، كما أنه يبطنُ في الأديان الرشيدية Orthodox الأصيلة كافة، والتي تُدْرَكُ بالبصيرة، لا بالعقلانية ولا بالتَّجريبية. ويتجذَّر هذا المبدأ الرئيس في طبيعة «المقدَّس» التي تصدر عن الحقيقة بوصفها معرفة الوجود التَّوحيدية المتعالية على عدم التَّقابُس بين الذَّات والموضوع.
ومن هذا المنطلق، يسعى أصحاب مدرسة الحكمة الخالدة إلى إبراز جوانب علم الإلهيات في سياق تجلّياته الرُّوحية والفكرية. واتساقاً مع ذلك المنحى الدّراسي، ركّز المؤلّف في الجزء الأول من كتابه على جملة المبادئ الأولى بفصلين ينصبَّان على طبيعة الله تعالى والرُّوح، وهما مفهومان تابعان للعلم المقدَّس، وتليه دراسةٌ عن الأبدية والزَّمن تتناول الميتافيزيقيا الجوهرية التي ينصبُّ اهتمامُها على العلوم التي تعالج العرضيَّة والاحتمال. وإلى جانب ما سبق، يتضمَّن الجزء الثاني من الكتاب دراستيْن تتناولان تساؤُلاً جوهرياً عن تعدُّد الصور المقدَّسة والعوالم الدّينية، فيما يتناول الجزء الثالث طرحاً للعلوم التُّراثية، أو المقدَّسة، التي ترعْرعتْ وحُفِظتْ في حضارات غير غربية، والتي لم تُعانِ بدرجة كبيرة من آثار العلوم العلمانية كما حاق بالغرب، حيث وُلدت الحداثةُ ورضعتْ وترعرعتْ قبل أن تنتشر إلى قارات أخرى ممَّا أدَّى في الأخير إلى نشوء توتُّر بين العلوم الغربية من جهة، والعلوم التُّراثية التي ما زالت تعيش بدرجة ما، كما تعيش الرّسالة الرُّوحية لعلوم الكون التُّراثية من جهة أخرى.
ومن هنا، يشتمل الجزء الثالث على ثلاثة أبواب عن المواجهة بين منظور التُّراث إلى العالم وبين «مهْزَلة» الحداثة؛ الباب الأول يتعامل مع موضوع ملحٍّ للغاية، ألا هو مشكلة البيئة، والذي يعالجه المؤلِّف من منظور الدّراسة المقدَّسة للطبيعة؛ وخصوصاً في التُّراث الإسلامي، والباب الثاني يُقدّم فيه نقداً تراثياً لفكرة التقدُّم بالتطور المادي المؤيَّد بالعلم الحديث، والباب الثالث يختم بالعودة إلى موضوع علم الإلهيات ذاته والحاجة الماسَّة إلى زرع مفاهيمه في السّياق المعاصر.
تلك كانت بنية الكتاب لجهة فصوله ومضامينه، أمَّا الغاية الكبرى للكتاب فتتمثَّل في نقد الادّعاءات الشُّمولية للعلم الحديث، أو على الأقل العلْمويَّة والوضعية المنطقية التي تدَّعي احتكار المعرفة. وتأكيد الحاجة إلى «العلم المقدَّس» الذي ضلَّ في متاهات النّسيان عن «الحكمة الخالدة» التي تعتبر العلوم تطبيقاً لها وبقايا منها.
الذَّات العلية بوصفها حقيقة لا نهائية
تُقدّم مدرسة «الحكمة الخالدة» الله سبحانه وتعالى بوصفه حقيقة لا نهائية، ويجب أن يُفهم تعبير «اللانهائي» ها هنا على نحو ميتافيزيقي وليس على نحو حسابي، كما أنَّ «اللانهائية» مصدرٌ لكلّ الممكنات الكونية وقبل الكونية Metacosmic. فتعبير الله «لا نهائي» ها هنا ليس بمعنى أنه لا يمكن لشيءٍ أن يعلوه فحسب؛ بل بمعنى أنَّه حقيقة لا مُتناهية تحْوي كلَّ الممكنات، وعلى نحو ميتافيزيقيٍ هو كليَّة الإمكان، وهو ما يقرّره الإنجيل بالقول: «إنَّ الله هو كلُّ ما يمكن»، ويؤكّده القرآنُ حين يُشدّد على أنَّ لله سبحانه وتعالى سلطاناً فوق كلّ شيء، في إشارة إلى أنَّ طبيعة الله «اللانهائية» هي «كليَّة الإمكان»، أو «كلية القدرة»: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. [يس: 83] وتعني الآية أنَّ الحقيقة الأساسية لكلّ الأشياء قائمة في الطَّبيعة الرّبانية، ومن المفيد هنا أن نستدعي كلمات: الإمكان، والاقتدار التي لها الدَّلالة نفسها حتَّى نقول: «إنَّ الله كليُّ الإمكان، وكليُّ القدرة».
يترتب على ذلك احتواءُ الرُّبوبيَّة على كلِّ الممكنات؛ بما فيها «إمكانُ العدم»، فمن دونه لن تكون الرُّبوبية لا نهائية. وقد انعكس هذا الإمكانُ في محاولة الإنسان الدَّفْعَ بالعدمية؛ لكنَّ هذا الإمكان يعْني انعكاساً نحو «اللاشيئية» التي لا يمكن الوصول إليها.
ففي سورة «الإخلاص» التي تلخّصُ مفهوم «الرُّبوبية» عند المسلمين، تُشير كلمة «قُلْ» إلى التَّجلِّي الرَّباني وإلى اللوجوس؛ أي الأداة الرَّبانية للتَّجلي، فيما تشير كلمة «هُوَ» إلى الماهيَّة الرَّبَّانيّة؛ أي الله سبحانه في ذاته وبما هو أصل للهُويَّة. أمَّا كلمة «أَحَدٌ»؛ فتشهدُ بالأحدية والإطلاق، فالله واحدٌ لأنَّه مُطلق، كما أنَّه مُطلق لأنَّه واحد. وأخيراً تُفيد كلمة «الصَّمَدُ» بأنّ الله مصدرُ كلّ شيء؛ كناية عن «اللانهائيَّة»، وأنّ وجوده كليُّ الإمكان، فيما تؤكّد الآيتان الأخيرتان «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» أنَّ الله مُتعالٍ عن العلاقات والمقارنات.
وينتهي سيد حسين نصر من وراء ذلك إلى تقرير أنَّ السُّورة في مُجْملها عبارة عن وحي ومثال مقدَّس للمذهب الميتافيزيقي الذي يتناول الطَّبيعة الرَّبانية في إطلاقها ولانهائيتِها، وأنَّ المعرفة هي مصدرُ الوحي الباطني؛ أو «البصيرة». ولكي نصل إلى الذَّات العليَّة يتعيّن علينا أن نمتدَّ نحو مركز الوعي الإنساني، ونجتاز العملية الكونية المتغيرة والمنعكسة التي تبدو على حجاب الكون، كما لو كانت انفصالاً بين «الوجود الموضوعي» و «الوجود الذَّاتي». وهذا الانعكاس يعدُّ بداية ضرورية لإنكار النَّفس وتحقُّق اليقين بالفناء. ولا بدّ أن يبدأ ذلك بإنكار الذَّات الدُّنيا، والإقدام على التَّضحية بها، كما لا يمكن أن يصل الوعيُ بالذَّات إلى الذَّات العليَّة إلا بعون رسالة «البصيرة الرَّبَّانيَّة»، والتي ليست إلا الوحْي بالمعنى الكُلّي.
إنَّ مفهوم الدّين يتسع في نطاق «الحكمة الخالدة» لينطوي على المجال الأولاني والتَّاريخي معاً. فالتّراث - بمفهوم مُعلّمي «مدرسة التراثيين» - ينطوي في ثناياه على كلّ صيغ التَّجلّي الإلهي، كما أنَّ الدّين في ذاته ترابي البنية، ولا يسبر غوره عالَمُ الظَّاهر وحقيقته الصورية، تماماً كما يحتاج عالم الظاهر Phenomenal إلى الباطن، أو الأَسْمَى Noumenal، فمفهوم «الظَّاهر» ذاته يفترض وجود «الباطن»، كما يستلزم الجانب الصُّوريُّ من الدّين بدوره جانباً لاصورياً. فالدّين ينطوي على بُعْدٍ برَّانيٍّ يتولَّى الجانب الصُّوريَّ من الحياة الإنسانية، ولكنْ بموجب كوْنه ديناً مكتفياً بذاته - كي يهْدي الإنسان إلى فروض الدّين ويؤمِن بحقائقه، ويعيش حياة فاضلة سوية ويفوز بالخلاص- فله كذلك بُعْدٌ جُوَّانِيٌّ يتولَّى جانب اللاصوري والجوهري، كما أنَّ له طرُقًا تُتيح للمرء التَّسامي إلى الجوهر الأسْمى هنا والآن، زدْ على ذلك أيضاً أنَّ سياق الجانبين ينطوي على مراتب عدَّة؛ حتَّى أنَّ كلَّ دين قيّمٍ يحتوي على مراتب تتراوح بين أشدّ الأمور تجلياً وظهوراً وأشدّها بطُوناً وخفاءً، وهو المركز الأسمى للإنسان.
من جهة أخرى، تحرص «مدرسة التُّراثيين»، التي ينتمي إليها سيد حسين نصر، على دراسة الدّين بتبتُّلٍ، ومُعارضة كلّ نسبية تتْرَى في الدّراسات الأكاديمية الحديثة للدّين والمفاهيم الضَّيقة عن الحق التي ترى تجليًا واحدًا للحقّ على أنَّه الحقُّ بما هو. كما تحرص أيضًا على المبدأ المنطقي الذي يؤكّد أنَّه «لا مُطْلَق إلّا المطلق»؛ فكلُّ ما عداه نسْبِيٌّ. وفي هذا السّياق بلور الشَّيخ عيسى نور الدّين، أحد أهمّ روَّاد هذه المدرسة، مبدأ «المطْلَق النّسبيّ»، ففي حين أنَّ شمسنا هي الشَّمس بما هي في نطاق مجموعتنا الشَّمسية؛ فإنَّها مجرد شمس بين شمُوس أخرى بالنَّظر إلى المجرَّات الكبرى. وقلْ مثل ذلك عن كلّ عالَمٍ دينيٍ، فهُنالك الكلمة، أو اللوجوس، الذي قد يكون نبيًا، أو كتابًا مقدَّسًا، أو أيّ تجلٍّ آخر للرُّبوبيَّة أو رُسُلِهَا إلى «الوعاء الإنسانيّ» القابل، وسواء أكان بالعربية كالقرآن، أم كجسد المسيح - وهي «مُطْلَقَاتٌ» في عالَمها الدّيني بوحي مُنزَّل- فإنَّ «المطلق هو المطلق مُطْلقًا»، ولذا كانت تلك التَّجليات «مُطْلَقة نسبيًا»؛ بمعْنى أنَّ المطلق في الميتافيزيقيا العُليا هو ما وراء الوجود، بينما «المطلق النّسبي» هو الوجود نفسه.
يتحصّل مما سبق أن في كل عالَم ديني تُتَنَزَّلُ الشرائع والرموز التي تقدّسها سُنّة تراثية، والبركةُ التي تُحيي الدين، وكلها مطلقة في حوضها من دون أن تُصبح مطلقة بما هي، ويتردد في أعماق قلب كل دين صدى صوت الله تعالى قائلاً «أنا»؛ فليس هناك إلا ذات أسمى واحدة تستطيع قول «أنا»، لكن لها كثير من الأصداء الكونية - وحتى ما قبل الكونية – للكلمة، فهي واحدة ومتعددة في الآن ذاته، وكما يقول جلال الدين الرومي: «حين يصل العدد إلى مائة؛ فإن التسعين حاضرة كذلك. واسم أحمد هو اسم الأنبياء جميعاً».
بين التُّراث والحداثة ... الحاجةُ إلى علم مقدَّس
الإشكالية الكبرى التي ينْهض كتاب سيد حسين نصر من أجل معالجتها يمكن تصويرها، أو بالأحرى اختزالها، في ذلك التَّضاد الكبير ما بين العلوم التُّراثية من جهة، والحداثة الغربية من جهة أخرى. فوفق المؤلِّف، إنَّ العلوم التُّراثية قد غُرسَتْ في كلّ الحضارات الإنسانية من مصر القديمة حتَّى الآرتيك وشعوب المايا، لكنَّ الصّياغة البليغة للعلوم التُّراثية التي عاشت حتَّى اليوم، بدرجة أو أخرى، إنَّما ظهرتْ في حضارات الشَّرق؛ مثل العلوم الهندية والإسلامية. ومن الأوْفق أنْ نلتفت إلى تلك العوالم لاسْتِكْنَاه علائقها بالعلوم الغربية الحديثة، وإذا كانت ثمَّة بقيَّة من أمل في استعادة «علم الإلهيات»، الذي هو على النَّقيض من العلمانية التي تَدَّعي لنفْسِها الهيْمنةَ على العالَم، فلا بدَّ من تفحُّص كُنْه العلاقة بين العلوم الغربية والحضارات الشَّرقية، والتي كانت مكْنزًا رئيسًا للتُّراث والمقدَّسات حتَّى يومنا هذا، ولا بدَّ أيضًا من التَّعامل - بدرجة أوسع - مع طبيعة العلم الغربي، والتي سعتْ إلى تقليده بلاد آسيوية كثيرة، فانتشرت بين كثير من القارات، وتسبَّبتْ في كوارث بيئية تُهدّد بانهيار منظومة الطَّبيعة في شكل كلّي. ومن هنا يُدرك كثيرون ضرورة إعادة النَّظر في علاقة العلوم الغربية بالثقافات الشَّرقية التي انهمكتْ حالياً في تبنّي تلك العلوم والتقنيات التي تقوم عليها.
وفي ما يتعلَّق بقضايا البيئة يؤكّد المؤلّف؛ أنَّ المنظور الإسلاميَّ للطَّبيعة والبيئة يرجع إلى القرآن الكريم باعتباره الآية الربانية المركزية في الإسْلام. فرسالة القرآن الكريم - بمعنًى ما - هي عودةٌ إلى الرّسالة الأولانيَّة القديمة من الله تعالى إلى الإنسان، فهي تُخاطب ما كان أولانياً باطِناً في طبيعته؛ ولذا سُمّي الإسلامُ «الدّين الحنيف»؛ بمعنى: القديم، والأولاني. فالقرآن الكريم لا يخاطب بني الإنسان فحسب؛ ولكنه يخاطب أيضًا الكونَ الكليَّ بأجمعه، كما أنَّ الطَّبيعة تُشارك في الوحي القرآني كذلك. وقد تردَّد هذا البُعْدُ في القرآن الكريم طوال قرون عند المسلمين الذين يُسمُّون الكونَ الأنطولوجي «القرآنَ التَّكويني/ كتاب الله المنظور»، في حين كان المصحف هو «القرآن التَّدويني/ كتاب الله المسطور». ونتيجة لذلك؛ فإنَّهم رأوا على وجه كلّ مخلوقٍ حروفًا وكلماتٍ من قرآن الكون، كما أنَّ حكماء الإسلام كانوا على وعي كامل بإشارات القرآن الكريم إلى ظواهر الطَّبيعة كآيات ورموز، فعمدوا إلى قراءة «كتاب الكون» بسورِه وآياته، ورأوا في ظواهر الطَّبيعة «علامات» بيّنةٍ تشهد لكاتب «كتاب الطَّبيعة» بالعظمة في الخلق، والإبداع في الإيجاد والتَّصوير.
وأخيرًا، فإنَّ أحوج ما يحتاجُه العالَم اليوم هو «الحكمة»؛ وهي المعرفة الأسْمى، أو «علم الحقيقة»، أو الميتافيزيقيا بمعناها التُّراثي Scientia Sacra، كما طرحها روَّاد «مدرسة التُّراثيين». والسَّبب في ذلك يرجع إلى أنَّ المبدأ الذي لا تخلو منه الطَّبيعة ينطبق على كلّ نطاق الميتافيزيقا والعلوم التُّراثية والكونيَّة، وقد أدَّى اختفاءُ الميتافيزيقيا الأصلية في الغرب إلى احتلال موْقعها بكلّ أنواع التَّهافت الفلسفيّ التي أدَّت في النّهاية إلى انتحار الفلسفة في فكر ما بعد الحداثة، كما أدَّى كسوفُ «العلم المقدَّس» في العالم الحديث إلى ما يتراوح بين الغيبية Occultism، وبين فلسفة العصر الجديد التي طرحت العلوم التُّراثية لبخس صور التُّراث والعلوم المقدَّسة فيها بتقويمها من منظور «الوضعية المنطقية Positivism»، وكانت النَّتيجة المترتّبة على ذلك مصفوفة طويلة من سُوء تفسير المقدَّسات وتشْويهها، والتي أصبحتْ جزءًا لا يتجزأُ من المشهد الثقافي اليوم!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.