«من الآن وصاعداً سوف نغفر لكم كل شي، ولا سيما الخسارة المالية وعدم القدرة على اجتذاب ملايين وملايين المشاهدين. أما الشيء الوحيد الذي لن نغفره لكم فهو ان تحاولوا تقليد محطات التلفزيون الأخرى». من يتوجه إليهم الكلام في هذه العبارات الحاسمة، هم مسؤولو القناة الفرنسية – الألمانية الثقافية «آرتي». والكلام نفسه كتب كتعبير عن نظرة كثرة من الصحافيين والنقاد، الى هذه المحطة، التي تبدو فريدة من نوعها في العالم، ولا سيما اليوم إذ تحتفل بذكرى مرور عشرين عاماً على تأسيسها. والحقيقة ان هذه الذكرى مناسبة للاحتفال بمحطة لم تقدم أي تنازل، إن في مجال المستوى الفني الذي كان لها منذ البداية، أو في مجال الرغبة، المغرية دائماً، في الوصول الى اعداد اكبر من المتفرجين، وبالتالي الى حصة في الإعلانات أو ما شابه ذلك. «آرتي»- هذه المحطة الثقافية، والتي لا علاقة لها بالشبكة العربية التي تحمل اسماً مشابهاً، بالطبع – كانت قبل عقدين من الزمن وليدة رغبة فرنسية – ألمانية، رعاها الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، في ان تكون للشعوب الناطقة باللغتين، محطة مشتركة تقدم كل ما هو فني وفكري وأدبي، استثنائي ورفيع المستوى، من دون ان تكون هناك أوهام بأن محطة مثل هذه ستنافس المحطات التجارية أو حتى غير التجارية. يومها لم يكن مطلوباً لهذه المحطة ان تنافس احداً: كان مطلوب منها ان تمد من يشاء من المتفرجين بأفضل البرامج وأذكى الأخبار، وأروع الأفلام، وأكمل الملفات الفكرية وحتى السياسية والتاريخية، إضافة الى إبداعات المسرح والموسيقى وسيَر الأدباء وما الى ذلك. وهنا، إذ نلفت الانتباه في ما يخصنا نحن العرب، ان هذه المحطة نفسها، قدمت من البرامج والأفلام والعروض عن العرب، وبتوقيع مبدعين عرب غالباً، ما يفوق في مستواه كل ما قدمته المحطات العربية نفسها على مدى تاريخها – إضافة الى إنتاجها عشرات البرامج والأفلام العربية-، نستطرد ان العرب لم يكونوا الوحيدين الذين وجدوا في برامج المحطة وساعات بثها، مرآة صادقة وذكية لهم. فكل الشعوب كانت لها حصة، ولا سيما منها تلك التي جرت العادة بأن تغيّب عن شاشات العالم. في هذا الإطار، ربحت «آرتي» معظم رهاناتها، ورهانات مؤسسيها عليها، حتى وإن كانت تعترف في عامها العشرين بأن ثمة رهاناً خسرته، وهو نبع من رغبة لم تتحقق في أن تتوسع دائرتها اللغوية والمشهدية فلا تعود حكراً على المتفرجين الألمان والناطقين بالفرنسية. وهي خسارة مفهومة طبعاً، لا تعتبر خطيرة قياساً الى ما حققته هذه المحطة التي وعدت في ذكراها بألا تقلد... أياً من الآخرين.