كشف توقيع الاتفاق الثلاثي بين إيران وتركيا والبرازيل على تبادل تخصيب اليورانيوم عن بروز دور سياسي للدول الناشئة اقتصادياً وسياسياً كالبرازيل وتركيا، إذ للمرة الأولى، وبعد انهيار تأثير منظومة دول عدم الانحياز، تتدخل دول ناشئة سياسياً واقتصادياً لحل قضية تتبنى حلها وتعقيدها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، ويكون هذا الاتفاق مضاداً لتوجهات معظم الدول دائمة العضوية، ما يعطي انطباعاً للمراقبين بأن زمن التفرد السياسي الدولي بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً، لمصلحة الدول الناشئة ولو أنه سوف يأخذ فترة لا بأس بها. جاء الاتفاق في وقت كانت الأمور تتجه فيه نحو التصعيد من الدول الخمس دائمة العضوية + ألمانيا، واعتقد الجميع أن فرصة فرض العقوبات على إيران باتت وشيكة جداً، ما جعل هذه الدول تتخبط في رد فعلها تجاه الاتفاق، وتتباين في رد الفعل تجاه هذا الاتفاق الذي كان مفاجئاً لها، إذ أظهرت إيران مهارة في التفاوض والتوقيت، بكسبها استمرار تخصيب اليورانيوم إلى درجة 20 في المئة، وإلزام تركيا بإعادة اليورانيوم غير المخصب، في حال رفض الاتفاق من الدول الأخرى، والموافقة على تبادل اليورانيوم منخفض التخصيب على أراضي دولة غير التي حددتها الدول دائمة العضوية + ألمانيا، أي تركيا. لا شك أن الاتفاق أثر تأثيراً مباشراً على قرار فرض عقوبات على إيران من الولاياتالمتحدة وحلفائها، خصوصاً أن الموقف الصيني لا يزال متحفظاً على مسودة الاتفاق، على رغم التطمينات الأميركية بأن الدول الخمس الكبرى وافقت على مناقشة مسودة الاتفاق، لكن لم يصدر موقف صيني صريح في ما يخص العقوبات، خصوصاً أن رد فعلها للاتفاق الثلاثي كان مؤيداً، وحتى بعد زيارة وزيرة الخارجية الأميركية الأسبوع الماضي للصين لا يزال الموقف الصيني يصر على الحل الديبلوماسي، خصوصاً بعد الاتفاق الثلاثي. لقد اتسمت ردود الأفعال الدولية على الاتفاق بعدم التوافق، إذ أظهرت ردود الأفعال الأوروبية حذراً كبيراً في البداية، انكشف بعدما ظهرت التصريحات الأميركية التي تعارض الاتفاق، وتطالب الوكالة الدولية بالرد على الاتفاق والفصل بينه وبين الطلب المقدم من الدول دائمة العضوية + ألمانيا، لأنه لا يعالج المطالب الدولية بما يخص قضية المفاعل النووي الإيراني، ثم ما لبث رد الفعل الأميركي أن بدأ يؤكد فصل الاتفاق الثلاثي عن موضوع العقوبات التي تحاول الولاياتالمتحدة فرضها على إيران، من خلال مكالمة أوباما لأردوغان التي أكد فيها أن الاتفاق يعتبر بداية، لكنه لا يلغي التحفظات والقلق الغربي حول برامج إيران النووي، في محاولة لعدم استفزاز تركيا والبرازيل الراعيتين للاتفاق، والعضوين غير الدائمين في مجلس الأمن الدولي لدورته الحالية، أما بالنسبة للموقف الروسي فقد كان متخبطاً وكأنه أخذ على غرة وغير متوقع للموافقة الإيرانية على الاتفاق، إذ عكست تصريحات الرئيس ميدفيديف حول زيارة الرئيس البرازيلي ورئيس الوزراء التركي لإيران بقوله «إنه يشك في تحقيق تقدم في الوساطة البرازيلية التركية»، ما لبث أن أيد فرض عقوبات على إيران، بعد توقيعها على الاتفاق مباشرة، وأبدى قلقه والمجتمع الدولي من برامج إيران النووية، كما أن تصريحات لمسؤولين روس آخرين كانت متخبطة أيضاً، إذ ذكر بعضهم أن العقوبات ستشمل صواريخ S300 المضادة للطائرات التي هي ضمن صفقة بين الدولتين لحماية المنشآت النووية من أي هجوم أميركي أو إسرائيلي، بينما يصرح بعضهم أنها لا تشملها، إذ إن العقد موقع قبل فرض العقوبات، ما يد دلالة قاطعة على تخبط في الموقف الروسي عكسته تصريحات مسؤوليه المتناقضة، كما يوحي بأن هناك تبايناً بين موقف الرئيس ميدفيديف ورئيس الوزراء بوتين حول التعامل مع الملف الإيراني، وهو ما أشار إليه الكثير من المراقبين. ليس هناك أدنى شك في أن الخاسر الأكبر في هذا الاتفاق وهذه الصفقة هي إسرائيل، إذ اتسم رد الفعل الإسرائيلي، بالمعارضة على الاتفاق بشدة، خصوصاً مع المواقف التركية المتصاعدة تجاه انتقادها في ما يخص عملية السلام في الشرق الأوسط، وموقفها تجاه الحصار الإسرائيلي لغزة واستفزازاتها المتكررة للعالم الإسلامي في ما يخص القدسالشرقية وبناء المستوطنات فيها والحفريات حول المسجد الأقصى، إن إسرائيل تعتقد أن البرنامج النووي الإيراني يهدد أمنها القومي بشكل كبير، لأنها تريد التفرد بالسلاح النووي وتقنياته، خصوصاً بعد المعلومات التي رشحت في الصحافة البريطانية عن عرض إسرائيلي لجنوب أفريقيا أيام الحكم العنصري قدم من خلاله شمعون بيريز عندما كان وزيراً للدفاع عام 1975، بيعها أسلحة نووية محمولة على صواريخ، في الوقت الذي تعقد الأممالمتحدة اجتماعاتها لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية. لقد أثر الاتفاق على موقف إيران السياسي، إذ كسبت إلى جانبها دولتين مهمتين في مجلس الأمن الدولي وفي المجالين الاقتصادي والسياسي الدوليين هما البرازيل وتركيا، وأظهرت من خلال الاتفاق مرونة ومهارة سياسية، جعلتها تكسب هاتين الدولتين في مواجهة الدول الأخرى دائمة العضوية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية، وهو ما أكدته تصريحات الرئيس البرازيلي ورئيس الوزراء التركي، بأن فرض العقوبات على إيران بعد توقيع الاتفاق لن يكون مبرراً، خصوصاً أنه فتح باب التفاوض الديبلوماسي وإيجاد الحلول عبر الحوار والديبلوماسية للملف النووي الإيراني. إذا نظرنا للاتفاق من منظور الأرباح والخسائر يتضح أن إيران كسبت من الاتفاق حتى ولو لم يتم تنفيذه، إذ كسبت الوقت للمناورة في ما يخص برنامجها النووي، إضافة إلى أنها جعلت العالم ينظر إلى الدول الكبرى بنظرة الشك تجاه الحل الديبلوماسي، إذا لم يكن هذا الحل ضمن منظور هذه الدول ومصالحها، والكشف عن تعاملها مع الكثير من القضايا الدولية كالقضية الفلسطينية وامتلاك إسرائيل لأسلحة نووية، بمكيالين. والأسئلة المطروحة هي: أولاً: هل يستمر تأثير الدول الناشئة سياسياً واقتصادياً كالبرازيل وتركيا على الأحداث الدولية؟ أم أنها استفادت من فترة التموضع الدولي الجديد بين الدول الكبرى؟ ثانياً: هل يكون الاتفاق الثلاثي آخر السهام في الجعبة الإيرانية لحل قضية ملفها النووي مع الدول الكبرى؟ أم أن البازار الإيراني سيستمر؟ * أكاديمي سعودي.