أوامر ملكية بإعفاء الماضي والعتيبي والشبل من مناصبهم    القيادة تعزي رئيس باكستان في ضحايا الفيضانات    أمر ملكي: إعفاء طلال العتيبي مساعد وزير الدفاع من منصبه    سيتي سكيب الرياض 2025.. تقنيات البناء ترسم المستقبل العقاري    السعودية تستقبل وفدا سوريا استثماريا برئاسة وزير الاقتصاد والصناعة    استقبل رئيس مجلس المديرين في شركة مطارات جدة.. نائب أمير مكة يستعرض تصميم مخطط صالة الحج الغربية    موجز    قلق أوروبي من تنازلات محتملة لموسكو.. ترمب: تقدم كبير في ملف أوكرانيا    تحذيرات دولية من كارثة إنسانية.. خطة تهجير سكان غزة تدخل حيز التنفيذ    وسط تحذيرات من كارثة إنسانية.. الدعم السريع يقتل 31 مدنياً بقصف على الفاشر    القيادة تهنئ رئيسي إندونيسيا والجابون ب«ذكرى الاستقلال»    «رونالدو وبنزيمة» يسرقان قلوب جماهير هونغ كونغ    الأرجنتيني كوزاني يحمي مرمى الخلود    سرقة مليوني دولار من الألماس في وضح النهار    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. مؤتمر «مسؤولية الجامعات» يعزز القيم والوعي الفكري    صابرين شريرة في «المفتاح»    لا تنتظرالوظيفة.. اصنع مستقبلك    تربية غريبة وبعيدة عن الدين!!    فيضانات باكستان غضب شعبي وتحرك حكومي    تحسين شامل لشوارع الصرار والهجر التابعة    «الحياة الفطرية» يطلق أكبر رحلة استكشاف للنظم البيئية البرية    «غابة العجائب».. تجربة استثنائية في موسم جدة    استعراض إحصائيات ميدان سباقات الخيل بنجران أمام جلوي بن عبدالعزيز    الخليج يضم اليوناني جورجيوس    الفتح يختم معسكره الخارجي    مصافي التكرير الأميركية تتلقى أولى شحنات النفط الفنزويلي    "خيرية العوامية" تنفذ 39 برنامجًا لخدمة المجتمع    المملكة.. وقوف دائم مع الشعوب    أمانة الرياض تكثّف رقابتها على المقاهي ومنتجات التبغ وتغلق منشأتين    الأمير تركي الفيصل ورسائل المملكة في زمن الاضطراب الإقليمي    قمة ألاسكا والمتغيرات الاقتصادية    العراق يفتح أكبر مقبرة جماعية لضحايا (داعش)    «إثراء» يدعم المواهب ويعلن المسرحيات الفائزة    مُحافظ الطائف يطلع على تقرير برنامج المدن الصحية    جامعة جدة تستعد لإطلاق ملتقى الموهبة للتعليم الجامعي    قنصلية السودان بليبيا تطلق مبادرة العودة الطوعية    زرع الاتكالية    تجمع مكة الصحي يخصص عيادة لعلاج مرضى الخرف    حملة توعوية لطلاب المدارس بالتجمع الصحي بمكة    القيادة تعزي رئيس باكستان في ضحايا الفيضانات    تعيين ثلث أعضاء اللجان في غرفة الأحساء    أمير تبوك يطلع على تقرير بداية العام الدراسي الجديد بمدارس المنطقة    تجمع الرياض الصحي الأول يطلق حملة "تعلّم بصحة" للعام الدراسي الجديد    مركز الملك سلمان يدعم متضرري باكستان    جامعة أم القرى تنظم مؤتمر "مسؤوليَّة الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري"    المشاركون في دولية الملك عبدالعزيز يزورون مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف    مدير مدرسة ابتدائية مصعب بن عمير يجتمع بالهيئة التدريسية مع إنطلاقة العام الدراسي الجديد    Ulsan يحافظ على لقبه العالمي    "قيمة العلم ومسؤولية الطلاب والمعلمين والأسرة" موضوع خطبة الجمعة بجوامع المملكة    نائب أمير جازان يزور بيت الحرفيين ومركز الزوار بفرع هيئة التراث بالمنطقة    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام فرع وزارة الصحة بمناسبة تعيينه    القيادة تهنئ رئيس جمهورية إندونيسيا بذكرى استقلال بلاده    علماء كوريون يطورون علاجًا نانويًا مبتكرًا لسرطان الرئة يستهدف الخلايا السرطانية    مرضاح والجفري يحتفلون بزواج فهد    المشاركون في مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية يغادرون مكة متجهين إلى المدينة المنورة    دواء تجريبي مبتكر يعالج الصلع خلال شهرين    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    نائب أمير منطقة جازان يقدّم التعازي لأسرة معافا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيلموسوفيا
نشر في الحياة يوم 08 - 03 - 2016

أفكر الآن بنحت بارع لمخرج بريطاني يجسد تعالقاً مذهلاً بين أوج المعرفة وأوج الفن: فيلموسوفيا. بداهة العلاقة كبداهة الوعي، مهمة الفلسفة أن ترينا العالم كما هو أو كما يجب أن يكون، أما السينما فتعيد بناءه أو تقوم بتدميره أو تبدع عالماً موازياً آخر. في الحالتين يوجد ضوء، في الكهف يأتي الضوء من الكون نحو جدار مرآوي، وفي السينما ينبعث الضوء من الشاشة لينفجر الكون كله على حد تعبير المخرج الإسباني بانويل. تخدم السينما الفلسفة والعكس، السينما تمنح ذاتها كوجود مجازي، والفلسفة تعطي الرؤية. كلاهما يحتاج الآخر.
فيلموسوفيا كلمة تجمع الفلسفة بالأفلام، ليس كلها بالطبع، فبعضها سقط متاع هوليوودي تكاد تصبح استنساخاً ومحض توثيق، ليس كل منتج سينمائي مؤهلاً للتأويل والنقد وعناية الفيلموسوفيا، السينما التسجيلية المباشرة التجارية فن غير قابل لإعادة إنتاجه نقدياً، ما الذي سنكتبه حول فيلم طروادة الهوليوودي الذي انتزع من الملحمة الهومرية مكونها الأسطوري المدهش جاعلاً إياها محض قتال وعاطفة فجة كفيلة بأن تحرق؟ أفلام كهذه فقيرة تأويلياً، عاجزة عن أن تكون تجسيداً لنظرية نقدية، أفلام «حشو» لا تضيف شيئاً إلى الواقع أو التاريخ. الفيلموسوفيا تعني وتهتم بشيء آخر، الأفلام الجديرة هنا هي تلك التي تفتح نافذة نحدّق من خلالها نحو واقع سينمائي أكثر صدقاً من الواقع نفسه.. أفلام تفكر على نحو شعري أو فلسفي، تنتشلنا من عذابات اللحظة وتضعنا في «الماوراء» وسط «فلسفة دون لغة»، سينما شعر وفلسفة مقابل السينما النثرية الواقعية التجارية المحظية عند هوليوود، والسينما الحقيقية هي الأقل واقعية كما يخبرنا أموس فوغل في كتابه «السينما التدميرية».
الفيلم كائن يفكر، هذا ما تريد قوله «الفيلموسوفيا». من العبث أن نفكر عوض الفيلم، أن نسقط عليه أدواتنا الفكرية ومقولاتنا الفلسفية ورؤيتنا الجمالية. السينما عالم قائم بذاته، الشكل فيه متحد بالمضمون، الدخول فيه يعني تجميد الفهم بصفته كلاماً وحواراً بين ذاتين، والشروع في تجربة إصغاء مطلق حيث المتكلم هي الصورة وحدها. الدخول في السينما يعني الدخول في الصمت. مع بداية الفيلم لا يموت المؤلف وحسب كما هو معروف منذ «بارت»، المتفرج أيضاً يخوض تجربة فريدة من تعليق الذات، تجربة من النسيان، تجربة صوفية من الموت الإرادي، من شطب الماضي والوجود في الزمن السينمائي وحده. ينبغي على المتلقي لكي يكون مؤهلاً للدخول إلى الصالة أن يوطّن النفس على المحو وفقدان الذات، حتى يستطيع التفكير من خلال السينما: يفكر الفيلم عوضاً عن مشاهده.
الروائية الأميركية سوزان سونتاج تخبرنا بأن الفردوس الأرضي ليس شيئاً آخر غير قراءة وسينما. كل يوم تقرأ أدباً أو فلسفة وتشاهد الأفلام، لا بد من فيلم تختتم به يومها كل مساء. اقتراح سونتاج المغري أحالني إلى مهووس بصرياً. صرت أشاهد بهوس. سأختار الآن فيلمين أثارا لديّ شهية التأويل والقراءة - الأفلام تُقرأ كما يُقرأ النص، نتهجاها لقطة لقطة- الفيلم الأول لجودوار رائد الموجة الجديدة في فرنسا والآخر لمخرج هنغاري تحرش بنيتشه وعالجه بصرياً داخل هذا الفانوس السحري الفذ. الفيلم «وداعاً للغة» للمخرج الفرنسي «غودوار» تجسيد كامل لهواجس السينما الفلسفية. يمكن نعت هذا الفيلم بصفته «فيلم الفيلم» أو «ميتاسينما» أو «فيلموسوفيا».. ينسحب المخرج كلياً لتظل الكاميرا وحدها.. الكاميرا هي التي تحلم وتفكر وتشعر وتربك المونتاج وتفتت السرد، الكاميرا هنا شاعرة تبز أبطال آشور وآلهة الإغريق. لكنها أيضاً روح تتأمل مثل حكيم بوذي، وتتوغل داخل نوم البطل لنرى طبيعة الحلم وقد صار واقعاً مجسداً ممسوكاً بالعين، حتى إنها تتقمص روح كلب، ترينا العالم بعيونه، للكلب حق في أن يقيم أنطولوجيا كلبية.
في هذا الفيلم ثمة عودة للسينما الخالصة، صور من دون لغة، ودعوة لتمرين الذائقة وترميمها بإعادة الاكتشاف السينمائي لما شاهدناه من قبل وما لم نشاهده، لا يشاهد الفيلم مرتين كما لا تُقرأ القصيدة مرتين، المشاهدة الثانية للفيلم لا تمنح مساحة إضافية للتأويل وحسب، بل توقظ الحواس وتستفزها وتجعلنا نؤمن بالقدرة التأثيرية للصورة والطاقة الغنائية للصمت. الفيلم الآخر احتفاء بهذا الصمت. «حصان تورين» للمخرج «بيلا تار» الصادر عام 2011.. فيلم بلا ألوان يسرد حياة رجل مع ابنته في ستة أيام «كمثل أيام الخلق» في كوخ منعزل مفتتحاً بالواقعة الشهيرة التي سبقت جنون نيتشه - احتضانه للحصان الذي تمرد على سيده - يتبعه مشهد طويل لحصان يجر عربة عليها رجل في أجواء عاصفة قبل أن يعود إلى كوخ خشبي، تستقبل الرجل فتاة تقوم بحمل أشياء من العربة ثم تنزع ملابس الرجل، يجلس الرجل إلى مائدة خشبية منتظراً الطعام الذي تقوم بتحضيره الفتاة نفسها لكي يبيت حتى المساء، وهكذا تتكرر هذه الحادثة طوال الأيام الستة. كأي عمل فني مفتوح سنلاحظ وفرة من الاحتمالات التأويلية. الصمت، التكرار، العزلة، تشكل مفاتيح للفهم. لكن يظل اللاحدث هو الحدث الأساسي، إن العزلة والصمت يزدادان ضراوة فيتكثف الزمن ويصبح له دوي موسيقي كالموسيقى التصويرية الموحية بأجواء القيامة والعاصفة الثلجية، موسيقى تضج بإيقاعات رتيبة حد المحو، كأنه يضعنا وجهاً لوجه أمام العزلة العارية لوجودنا الإنساني، كأننا بإزاء رتابة مضاعفة «الحدث المكرر والموسيقى الإيقاعية» تضعنا أمام ذروة تشابك الحياة مع الموت، نشاهد الموت نفسه يأتي ببطء: الزمن في كثافته وفي صورته النقية يصبح عدماً. لا يوجد سرد بالمعنى المألوف.
كما لا توجد أحداث أو قصة تنتظر تأويلاً، فيلم «حصان تورنتو» من الأفلام التي يمكننا أن نسميها مع «جيل دولوز» بالأفلام - الرؤية. ليس الفيلم كبقية الأفلام مشروطاً برؤية مسبقة تضفي على الحدث تأويلاً لكي يفهم ويموضع في مجرى السرد، ليس الأمر كذلك، لم تعد الرؤية شرطاً وحسب، إنها هنا هي الفيلم ذاته. الأمر الذي يؤكده أسلوب اللقطة الطويلة التي نلاحظها جلياً في هذا الفيلم. لا شيء عبثياً، الصمت يضاهي الكلام دلالة، السينما الصامتة ليست أقل شأناً من نظيرتها الناطقة. هنا سينما خالصة، فقر مسرحي - الحوار نادر في الفيلم - خواء متعمد يستعيد أنفسنا المفقودة والضائعة وسط التفاهات اليومية.
على أن الشيء الجوهري في هذا العمل ليس سوى هذا اليومي نفسه مأخوذاً في وجهه العاري. لا يفعل الفيلم سوى أن يعري اليومي والتافه باليومي نفسه، جعله مبتذلاً بتكراره. يبعث الإيقاع الرتيب الملل والسأم، التكرار الثابت زمن ثقيل، نشعر بالزمن أكثر حينما لا يوجد حدث، يصبح الزمن مرئياً محسوساً، يصبح جسداً، الموسيقى والصمت الأشد تعبيرية من كل اللغات يوحيان بالعدم، والفيلم إذاً يبدو مبدئياً كنقيض للتنبه، لليقظة باعتبارها حاضراً للحاضر، ولكن مع التعليق الموقت والاختياري للمتعة ستكون العزلة معدية للمتفرج نفسه، ستمنحه هدوء التأويل والتنبه، سيعزز الحدث الشحيح القدرة على التنبه، تقول الروائية سونتاج: «الكلمات تصبح ملموسة تقريباً عندما تتخللها فترة صمت طويلة»، نستطيع القول إذاً في صيغة مفارقة إن «حصان تورنتو» يقدم ذاته كاقتراح لسينما مضادة للعدم.
* كاتب سعودي٫


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.