عجائب الحج لا تنتهي. وقد قصصت في شهر رجب الماضي في هذا العمود بعنوان "عزيمة" حكاية الحاج التونسي، الذي حج على قدميه من جدة إلى المشاعر المقدسة، لكنه قبل أن يبدأ الرحلة بأسبوع ترحّل بسيارته على الطريق القديم؛ كي يعرف أين يستريح، وأين ينام في ال 75 كيلو مترًا، التي سيسير فيها على قدميه بين جدةومكةالمكرمة. واسترعى انتباهي قبل شهر خلال حج عام 1446ه رحلة الحجاج الأندلسيين الثلاثة، أو الأربعة الذين انطلقوا على ظهور أحصنة من بلادهم إسبانيا حتى مكةالمكرمة. كان من بينهم مسلم حديث الإسلام، وقد قرروا محاكاة رحلات أجدادهم من الاندلس إلى الديار المقدسة في مكةوالمدينة. وقد استغرقت الرحلة نصف عام، قطعوا فيها السهول والهضاب والوديان والجبال. فيا لها من رحلة تزيد على 4000 كيلو متر. لقد انتقلوا من إسبانيا إلى فرنسا ثم إلى إيطاليا ثم إلى سلوفينيا ثم إلى تركيا. وتغلبوا على إجراءات الحدود بين الدول، وعلى الممارسات البيروقراطية حتى وصلوا إلى إسطنبول في تركيا، وهناك ارتاحوا بضعة أيام، ثم تحركوا إلى أنقرة عاصمة تركيا، ومنها إلى سوريا؛ حتى وصلوا إلى مدينة حلب، وكان أحدهم يتحدث اللغة العربية؛ كي يتفاهم مع المسؤولين العرب. وبعد أن ارتاحوا هم وخيولهم رحلوا إلى دمشق، كما كان يفعل أجدادهم، الذين كانوا يزورون دمشق عاصمة الأمويين في المشرق، التي انطلق منها موسى بن نصير، ومن بعده عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك؛ فأسس الخلافة الأموية في الأندلس. وبطبيعة الحال، كانوا يبحثون في كل مدينة عن العلف لإطعام خيولهم. وقد قطعوا الأردن ووصلوا إلى منفذ الحديثة السعودي في محافظة القريات؛ فوجدوا الترحيب الكبير هناك. لكن المشكلة سوف تتفاقم عندما ينطلقون من القريات إلى تيماء، ثم يقطعون نحو 500 كيلو متر إلى المدينةالمنورة؛ فالطريق صحراوي والجو حار في الصيف، والله أعلم كيف تصرّفوا حتى وصلوا إلى المدينةالمنورة. فالسيارات لها محطات وقود، أما الخيول فليس لها حظائر على الطرق الحديثة. وإذ أتموا مناسكهم قبل شهر، فهل عادوا على الخيول وهم حاليًا لا زالوا يسيرون، ولم يصلوا بعد إلى ديارهم في الأندلس؟ أم اختاروا العودة بالطائرة؟ لعل أحد القراء الكرام ممن يتقن الإسبانية يدخل إلى جريدة إسبانية غطت الرحلة في الذهاب والإياب؛ فيخبرنا عنهم. هؤلاء الحجاج غامروا مغامرة عظيمة؛ لأنه لا مجال لهم أن يعملوا بروفة، كما فعل أخونا الحاج التونسي.