الذهب يسجل خسائر أسبوعية مع تقلص توقعات خفض أسعار الفائدة    تداول يشهد تراجعا أسبوعيا    45% من النمو الاقتصادي للقطاع الخاص    الاستدامة تهدد وظائف الاستثمار الاجتماعي    صندوق الاستثمارات العامة.. من إدارة الثروة إلى صناعة القوة الاقتصادية    "جامعة خالد" و"الاتصالات" تختتمان "اكتشف ابتكر غيّر"    الإنسانية في فلسفة الإنسانيين آل لوتاه أنموذجا    ضد أوهام الاحتلال    كيف سقطت ورقة " معاداة السامية "    "الفتح"يتغلّب على أوردينو الأندوري برباعية ودية    خلال معسكره الخارجي في إسبانيا .. "نيوم"يتعادل مع روما الإيطالي    الفريق الفتحاوي يختتم معسكر إسبانيا بالفوز في مباراتين وديتين    الاتفاق يتعادل وديًا مع الرفاع    بايرن ميونيخ يهزم شتوتجارت بثنائية ويتوج بكأس السوبر الألماني    غوارديولا: فوز واحد لا يعني أن سيتي عاد لمستواه    كومان يشارك في تدريبات النصر    "الأهلي" يغادر إلى هونغ كونغ استعداداً لمواجهة "القادسية" في السوبر السعودي    "أمانة الرياض" تكثّف حملتها في "منفوحة" وتضبط مخالفات    ضبط 21997 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل    مشاهد إيمانية يعيشها المشاركون في رحاب المسجد الحرام    "هجرس".. أصغر صقار خطف الأنظار وعزّز الموروث    الشؤون الدينية تنفذ خطتها التشغيلية لموسم العمرة    خطيب المسجد الحرام: شِدَّةَ الحَر آية يرسلها الله مَوعِظَةً وعِبْرَة    جامعة أمِّ القُرى تنظِّم مؤتمر: "مسؤوليَّة الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري" برعاية كريمة من خادم الحرمين الشَّريفين    «متحف طارق عبدالحكيم» يختتم المخيم الصيفي    التعليم تشدد على ضوابط الزي المدرسي    تعثر واعتداءات تخنق شوارع الدرب بمياه الصرف    انتشال جثث بعد مقتل 320 شخصاً خلال 48 ساعة جراء الأمطار الموسمية في باكستان    دراسة: احتساء القهوة صباحا يزيد الشعور بالسعادة    خفض الكوليسترول خلال 10 أيام    السجائر الإلكترونية مستعمرة بالفطريات    "الشؤون الإسلامية" بجازان تنفذ أكثر من 460 جولة ميدانية لصيانة عدد من الجوامع والمساجد بالمنطقة    بوتين أبلغ ترامب بإمكانية تخفيف بعض المطالب المتعلقة بالأراضي    القبض على 4 إثيوبيين في جازان لتهريبهم (185) كجم "حشيش"    مشاركو مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية يغادرون إلى المدينة المنورة    أميركا: وقف إصدار جميع تأشيرات الزيارة للقادمين من غزة    العدل تطلق خدمات مركز الترجمة الموحد عبر منصة تقاضي    فريق قوة عطاء التطوعي ينفذ مبادرة "احتواء 1″ بجازان    المعلمون يعودون غدًا استعدادًا للعام الدراسي الجديد 1447ه    «التعليم» تنشر ضوابط الزي المدرسي والرياضي للطلاب والطالبات    الرمان المحلّي يغمر أسواق المملكة بإنتاج يتجاوز (37) ألف طن    تجمع تبوك الصحي يطلق مشروعات تطويرية لطب الأسنان    الرئيسان الأمريكي والروسي يختتمان قمتهما المشتركة في ألاسكا    أمير عسير يستقبل سفير بلجيكا    المملكة تعزي وتواسي باكستان في ضحايا الفيضانات والسيول    أمين جازان يتفقد مشاريع التدخل الحضري ويشدّد على تسريع الإنجاز    المملكة تتوّج بالذهب في الأولمبياد الدولي للمواصفات 2025 بكوريا    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم حلقة نقاش بعنوان: (تمكين الابتكار الرقمي في العمل التوعوي للرئاسة العامة)    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    رئيس الوزراء النيوزيلندي: نتنياهو فقد صوابه وضم غزة أمر مروع.. «الاحتلال» يصادق على الهجوم .. وتحرك دبلوماسي للتهدئة    موسكو تقلل من أهمية التحركات الأوروبية.. زيلينسكي في برلين لبحث القمة الأمريكية – الروسية    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    انطلاق ملتقى النقد السينمائي في 21 أغسطس    «البصرية» تطلق «جسور الفن» في 4 دول    أمير جازان يعزي في وفاة معافا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في نص (موجة حمام) لحميدي الثقفي (1-2)
نشر في البلاد يوم 07 - 04 - 2019

إنَّ محاولة تقديم قراءةٍ تأويليةٍ لأي نصٍّ متجاوزٍ كالنصِّ الذي بين أيدينا أعلاه-عمليةٌ شاقةٌ محفوفةٌ بالمخاطرة، وهي مجازفةٌ قلَّما ترضي عشاق النصِّ لأنَّهم يرون فيها افتئاتًا على الشعر والشاعرية؛ ويجدون فيها عادةً تحجيمًا لامتدادات النصِّ، وخطوط طوله وعرضه الإبداعية.نحن إزاء نصٍّ بهيٍّ لا يعترف بالتواضع قيمةً؛ فيما حمله من صورٍ ودلالاتٍ ورموزٍ تتراى؛ وجميعها تَحُولُ كثيرًا بين ذلك النص، ومحاولات القبض على معنى عامٍ له، وتجعل القبض عليه أصعب من القبض على الجمر، وأشد تحديًا من القبض على الماء.ولعل من الموافقات أوالمفارقات العجيبة أنَّ نجد “الجمر” و”الماء” معًا حاضرين في هذا النصِّ: “نار مشعلة” و “هديل البحر”!ولعلَّه من نافلة القول تذكير القارئ الكريم بأن ما أطرحه هنا يمثل فقط فهمي الشخصي؛ وليس بالضرورة ما قصده الشاعر، وأنَّ قابلية النصِّ لتعدد الرؤى والقراءات تمنحه رونقًا وخلودًا، ومزيدًا من الجمال.
يتهيأ لي أن العتبة الرئيسة التي يمكننا أن نلج من خلالها لقراءة هذا النص هي مطلعه؛ أول بيتٍ فيه، وتحديدًا شطره الأول:” رفرفت في بالي اوراق بيضا مهملة”تلك الأوراق ناصعة البياض التي رفرفت في بال الشاعر، ترمز وتشير لبدء تلبس الشاعر بحالةٍ إبداعيةٍ تناديه قائلة “هيت لك”، “هيا اكتبني”! تراوده عن نفسه، تريده أن يملأ بياض ذلك الورق بسواد حبرٍ/قصيدةٍ تليق به، وتستحق شرف فضِّ بكارته.
والشطر الثاني من البيت نفسه يؤكد ببلاغةٍ فائقةٍ ذلك:” واشتهى صمت ابيض الجوع تفاح الكلام”وماذا عسى أن يكون “تفاح الكلام” المشتهى من قبل “صمت ابيض الجوع”،سوى كلمات /أبيات القصيدة، وما تحتويه من كلماتٍ وصورٍ ومعانٍ تملأ بياض الورق؟ونلحظ هنا أنَّ الشاعر أنسن الورق، وجعله يشعر بالجوع،ويحس به.أليس المبدع من يعيد تشكيل العوالم، وبناء علائقها بعضها ببعض مجددًا وفق رؤيته؟وإذا كانت التفاحة الواحدة كفيلةً عادةً بسدِّ رمق جائعٍ، فما بالنا بجمعٍ من ال “تفاح”؟ أظنه يكفي لإشباع جوع بياض ورقةٍ بل وأكثر من ورقةٍ.واستخدام الشاعر هنا لمفردة “تفاح”؛
لم يأتِّ اعتباطًا، فالتفاحة مكتنزةٌ بالحمولات والدلالات في التراث البشري، والثقافة الإنسانية منذ لحظة الخلق الأول، حيث وسمها البعض بأنَّها رمز الخطيئة؛ وأنَّها ثمرة تلك الشجرة المحرَّمة التي أكل منها أبونا (أدم) وأمنا زوجه؛(حواء)في الجنَّة بإغواءٍ وإغراءٍ مقصودين من (إبليس)، وبسببٍ من تلك الخطيئة كان قدر الثلاثة؛ أدم وحواء وإبليس الطرد من الجنَّة، والهبوط مرغمين إلى الأرض.إنَّ ثمَّة علاقةٌ بين الخطيئة التي يرمز ويذكر بها “التفاح”، وبين القصيدة بشكلٍ أو بآخر، فإذا كانت الخطيئة كسرًا ل “تابو” من نوعٍ ما، فالقصيدة المبدعة والمتجاوزة عادةً ما تكون رفضًا لواقعٍ ما، وتجاوزًا لخطٍ أو لعدَّةِ خطوطٍ حمراء.
البيت الثاني أظنه يصف حالة الشاعر قبيل أن تتلبسه تلك الحالة؛ فقد كان ساهيًا لاهيًا مثله مثل طفلٍ يلهو ببناء بيتٍ من رمال على الشاطئ؛ يقيمه تارةً، ويهدمه تارةً أخرى حتى أتته موجةٌ مندفعةٌ من البحر، وطوحت بكل ما كان يشغل به نفسه بعيدًا هناك.هو المبدع بريئًا مثله مثل طفلٍ حتى تتلبسه الحالة الإبداعية؛ لحظة إلحاح وإصرار القصيدة عليه أن يكتبها، فتنقله من عالمه العادي؛عالم العادية والألفة مع (من) ومع (ما) حوله، لتحيله إلى شيطانٍ في يد ساحرٍ يسخره كيف يشاء، أو إلى ساحرٍ تتلو عليه الشياطين كتبها،
وتتحكم به، فالأمر سيانٌ، وكلُّ ذلك يجعل من الشاعر نسخةً مطورةً من قول جده أبي العلاء المعري:”وإِني وَإِن كنت الْأَخير زمانه لآتٍ بما لم تَسْتطعه الأوَائل”وهذا أمرٌ يذكرنا بأسطورة “وادي عبقر” الذي يستمد منه الشعراء إلهامهم من جِنِّه وجِنِّياته، كما يذكرنا أيضًا-ونحن في حضرة نصٍّ شعبيٍ-بالأسطورة الشعبية (السقوة)؛ جنِّيةٌ أنثى فاتنةٌ تأتي الشاعر ليلًا، وتسقيه حليبًا، يصبح بعده من الشعراء الذين لا يشق لهم غبارٌ! وللجنَّ (مجازًا) فضل نقل المبدع من البراءة إلى الشيطنة، وعليهم في الوقت نفسه وزر وتبعات تلك النقلة.
يستوقف المتأمل في النصِّ قول الشاعر:” في هديل البحر واصطادته موجة حمام”،عملية تغيير الموافقات المألوفة بين الكلمات، فالهديل عادةً ما يكون اسمًا لصوت الحمام، والموج في الأصل من حركات البحر، ولكن الشاعر الذي يعيد بناء العوالم، وتشكيل العلاقات -كما أسلفت-، فهو في الوقت نفسه، وبنفس المقدرة يطوع اللغة، ويفجر طاقاتها، ويغير من استخداماتها المألوفة تركيبًا ومعنىً، ويقلبها أحيانًا رأسًا على عقبٍ وهذا أمرٌ يعرفه النقاد ويسمونه ب (تراسل الحواس)، ويضربون له مثلًا شهيرًا بقول “جبران خليل جبران” في قصيدته “المواكب”:هل تحممت بعطرٍ .
وتنشفت بنورٍوشربت الفجر خمرًا … في كؤوس من أثيرٍ؟فحاسة اللمس عند “الاستحمام”، انتقلت إلى حاسة شمٍّ ل “العطر”، وحاسة البصر ل “النور” استحالت إلى حاسة لمس ل “التنشف”، وحاسة الذوق عند “الشرب” غدَّت حاسة إبصارٍ ل كؤوس أثيرٍ”. وشاعرنا يوظف تراسلًا من نوعٍ مغايرٍ نوعًا ما بين “هديل” الحمام و”موج” البحر جاعلًا كلًا منهما للآخر.
وإذا كان الشيء بالشيء ُذْكَرُ ويُذَكِرُ فإن شاعرنا في نفس القصيدة جعل ل (الصيف) الذي هو موسمٌ زمنيٌ (حانةً) وهي مفردةٌ تعني في العامية مكانًا لبيع المشروبات! وفي ظني أن تغيير العلاقات بين المفردات هنا، جاء تماهيًا مع حالة الاضطراب والارتباك التي تملكت الشاعر عندما دعته القصيدة أو لحظة كتابتها. فهو لم يعد -هو- قبل تلك الحالة، وبالتالي فلن يأتي بالمفردات كما جرى العرف والتقليد، فالحالة أخرجته عن المعتاد، ولهذا أخرج المفردات عن المألوف، وكأني بلسان حاله يقول:”واحدةٌ بواحدةٍ، والبادي أظلم”! والحمام رمزٌ للسلام والسكينة،
كما أنه رمزٌ للحب والوفاء.. فلاق / ناسب أن يكون هو من اصطاد الطفل رحمةً به ولطفًا. ثمَّ أنَّ اختيار طيور”الحَمَامِ” دون غيرها، مقصودٌ من الشاعر،ليخدم غرضه، فلحظة التلبس تأتي ابتداءً مخاتلةً مخادعةً وموهمةً للشاعر بالأمن والأمان، والسلامة والدِّعة، وكل ذلك من تداعيات ومعاني “الحَمَامِ”.
وتطويح موجة “الحَمَامِ” بلهو الطفل البريء على الشاطئ يوازي نقل الشاعر من حالته الإنسانية المعتادة إلى حالة عراكٍ مع لحظة / لحظات إبداع / إنتاج نصٍّ. وإن كان الطفل قد بكى على بيته الذي طوحت به الموجة بعيدًا، فالشاعر ربَّما يبكي “مجازًا” أيضًا على لحظات الهناء المتمثل في العادية وراحة البال، قبل أن تصطاد فكره ووجدانه جنيات عبقرٍ!وللقراءة بقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.