قال لي محدثي غفر الله له. نحن نعيش عصر التناقض وازدواجية الشخصية نبيح ما يروق لنا ونحرم ما يتعارض مع مصالحنا. نرتكب المجهمات باسم الدين والوطن والحرية! ألا ترى جاهلاً يحاور عالماً أو مثقفاً؟ ألا ترى أن المثقف أصبح دوره مغيّباً وأحياناً مجهول الهويّة يكاد يكون ضائعاً في زحمة سيطرة أصحاب رؤوس الأموال في مجتمعنا على عقول الشباب المثقف! ألا تعجب ممن يتكلم عن الوطنية وهو على رأس أركان الهرم التعليمي يختلس المال العام؟ .. أليس هناك تناقض وخداع نفسي لمن يطلق زوجته ثم يُبقي عليها ويستغلها وبعد وفاته نجد أن هناك صك للطلاق مع محتوياته ينص على طلاق زوجته. هناك من يتشدق في المجالس وأمام شاشات الفضائيات عن أصول التربية والتعليم والخلق والمبادئ وفي الجانب الآخر لديه قنوات تبيح المحذورات. أليس هناك تناقض في سلوكنا مع أهلنا وذوينا ووالدينا ومجتمعنا؟ قال محدّثي أعتقد لو أن الأقدار وضعتنا أمام هذه الظروف لكنا مثلهم أو أكثر تمسكاً منهم ببهرجة الحياة وزخرفها!؟ صمتُ حينها وقلت لمحدّثي العزيز: نحن كتربويين قد تكون لدينا مناعة لأننا اكتسبنا قيمنا ومبادئنا منذ الصغر ومنذ أن كان العيب والحرام واضحاً. نحن لم نتلق القيم من والدينا بل رضعناها بالممارسة بالقدوة والاحتكاك المباشر. رأينا الحرام ينعكس على فاعله في الدنيا قبل الآخرة وكذلك حال عقوق الوالدين. شاهدنا أولياء أمورنا يعيشون على الكفاف وكذلك الأمر بالنسبة لمعلمينا فكانت النزاهة والعصامية هي سماتهم الشخصية، عشنا في مجتمع يحترم الفقير ويكْبُر فيه قوة التصميم والإرادة على المضي في مهنته مهما كانت في نظر الآخرين اليوم وضيعة أو بسيطة. عرفنا منذ أن أُبتعثنا لأمريكا ومنذ الدرس الأول في الجامعة ودخول البروفسور علينا والتعرف على أسمائنا حيث قال: ألا تعلمون أنكم اخترتم مهنة الفقر لأنفسكم؟ والنزاهة والعصامية طريقاً لكم وسبيلاً لحياة أولادكم! فأنتم لستم تجاراً أو صناعاً أو بائعي مخدرات؟ أنتم من اخترتم لأنفسكم طريق التقييم وقهر الرغبات وتحدي النفس والضمير سبيلاً لحياتكم أنتم من سوف تحافظون على القيم والمبادئ وتورِّثون الخلق والفكر والطموح والأمل والحرية لأبنائنا حتى قال: أنتم أساس بناء المجتمع والفكر والرقي الإنساني. قلت حينها لمحدّثي العزيز: هل بعد هذه الأسس والثوابت القوية التي بُني عليها مفهومنا للحياة تُريد منّا أن ننحرف عما اكتسبناه من صدور وعقول الرجال أو من بطون أمهات الكتب؟ إن سلوكنا في هذه السن وبالتالي في هذه المرحلة يتسم بما نسميه الصعب الممتنع وليس السهل الممتنع فما نعيشه اليوم من تناقض اجتماعي وخلقي وسلوكي أدى إلى ازدواجية الفقر مع الغنى، فالكل منا لابد أن يكون بالضرورة غنّياً فالغنى عند هؤلاء المتناقضين مشاع ليس له أية علاقة بالمهنة مهما كانت بسيطة أو وضيعة أو فاضلة فالمعلم يمكن أن يكون مدرساً في الصباح ومضارباً بالأسهم في المساء أو أثناء دوامه فلا يعفيه مبدأ أو التزام ولا قدوة أو فضيلة. فالخلق والقيم والثوابت أصبحت في أيامنا تُقرأ ولا تكتب تُسمع ولا تترجم لواقع ملموس فهي في نظر هؤلاء المتناقضين التزام مضى وتاريخ عفا عليه الزمن وكما يقولون اليوم (الرزق يحب الخفية) ولو أدى ذلك للتعدي على حقوق العامة والخاصة فالغاية عند هؤلاء تبرر الوسيلة! فالحلِف بالله كاذباً أو صادقاً هو من باب ازدواجية المصالح وبالتالي الشخصية حتى تنتهي إلى أمراض نفسية فالمعاملات منفصلة عن العبادات عند هؤلاء متناسين أن الدين المعاملة! فلا يمكن أن يصلي في الصباح ويرتكب المحرمات في الليل ولا يمكن أن يكون داعياً إلى الله ثم يختلس الأموال أو أن يكون تاجراً ومرابياً في نفس الوقت. وهناك ظاهرة اليوم تشيع بين شبابنا وهي أن الاستغفار صابون التوبة! فكل ما يعمله الإنسان من محرمات مثل الكذب والزنا وأكل الربا جميعها كما يقولون يمحوها الاستغفار! أقول لمثل هؤلاء المغرر بهم (لا حيلة على الله)!؟ فالحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهة يعلمها كثير من الناس، فلا يمكن أن يصلح حالنا إلا بما صلح به حال أجدادنا فالفضيلة والرذيلة ليس بينهما علاقة ولا يلتقيان والدين عند الله هو الإسلام. فما نراه من تناقض وتبريرات في المواقف والاتجاهات الفكرية والعقائدية يرجع إلى التشدد بالطبع والتنطع وإلى ضعف الشخصية وتفكك القيم وتسيب السلوك وانحلال الخلق بكافة أنواعه، نحن لسنا شعباً ملائكياً نعيش في المدينة الفاضلة ولكننا وضعنا أصبح مقلقاً اليوم بالنسبة لما عاشه أسلافنا فالتناقض اليوم أصبح صفة مميزة لمجتمعنا، فالإنسان منّا لا يعرف ماذا يريد من حياته فالتأرجح والتخلخل في المواقف تشوبه الكثير من المفارقات، فالالتزام بكتاب الله وسنة رسوله حيث لا مرجعية في الإسلام هي الأساس الأول لنجاح سلوكنا والرقي بأنفسنا ومجتمعنا الإسلامي.