في زمنٍ أصبحت فيه الأيادي تمتدُّ بمقابل، والمشاعر تُوزن بمكاسب، يسطع نور أولئك الذين يُعطون بصمتٍ، لأنهم يُدركون أن الصدق في العطاء عبادة، وأن ما عند الله أبقى. هم الذين قالوا بقلوبٍ خاشعة: "إنّا نخاف من ربّنا يومًا عبوسًا قمطريرًا"، فكان خوفهم زادًا يُطهّر النية، ويُبارك الأثر. يُطعمون لا رياءً، ويساندون لا طلبًا لثناء، لأنهم آمنوا أن الخير لا يُثمر إلا إذا سُقي بماء الإخلاص، وأنّ النور لا يُرى إلا حين ينبع من القلب. العطاء الحقيقي ليس في مقدار ما نُقدّم، بل في نقاء الدافع خلفه، فكم من كلمةٍ طيبةٍ صنعت فرحًا أبقى من مالٍ كثير، وكم من يدٍ امتدت برفقٍ كانت أصدق من ألف صدقةٍ علنية. إنّ ما يخرج من القلب يصل إلى القلب، وما كان لله، يبقى مهما غابت الأسماء، فالعطاء الصادق هو مرآة النية، ومنارةُ النفوس التي لا تبحث عن مقابلٍ سوى رضا الخالق. العطاء ليس حكاية تُروى، بل روحٌ تُمارس العطاء،هو أن تُنير دربًا لغيرك وأن تترك في القلوب أثرًا. العطاء الصادق لا يحتاج إلى جمهورٍ يصفّق، ولا إلى عدساتٍ توثّق، يكفي أن يراه الله، ويعلمه فاعله. في كل مرةٍ تُقدّم فيها الخير دون انتظار، أنت تبني لبنةً في جدار إنسانيتك، وتقترب خطوة من معنى الحياة الحقيقية. العطاء ليس فعلًا عابرًا، بل هو أسلوب حياةٍ يختاره أصحاب القلوب النقية. من يُعطي لا يخسر، حتى وإن لم يُقدّر الناس عطاؤه؛ لأن الله يُخزّن له في الغيب فرحًا يعوّضه عن كل خذلان. أجمل ما في العطاء أنه يُعيد ترتيب دواخلنا، يذكّرنا أننا خُلقنا لنعطي، لا لنأخذ، وأن الإنسان كلّما قدّم أكثر، أصبح أثمن. العطاء الحقيقي لا يُقاس بما نملك، بل بما نُقدّمه طوعًا من أجل سعادة الآخرين. العطاء هو أن تبتسم لمن يُرهقه الحزن، وتغفر لمن أساء، وتفتح باب الأمل لمن أُغلق في وجهه كل باب. هو أن تترك بصمة من رحمةٍ تمرّ على الأرواح كما يمرّ المطر على الأرض العطشى.. الكلمة الطيبة، الإبتسامة ..النقاء كلها من العطاء.. حين نزرع الخير في صمت، ينبت أثره في أماكن لا نراها، ويُثمر في أوقاتٍ لا نتوقعها. إنها سنة الله في الكون؛ أن من أعطى لله، لم يُحرم، ومن صدق في عطائه، وجد الجزاء أضعافًا مضاعفة. فما أعظم أن يُذكر الإنسان في السماء قبل أن يُشكر في الأرض، وما أجمل أن يكون العطاء خالصًا لا يبتغي سوى أن يرى فرحة، وابتسامة تعلو ثغر احدهم.. وكما قال: الإمام الشافعي سَخَاءُ النَّفْسِ من شِيَمِ الكِرَامِ، وما مَنَعَ العَطَاءَ سوى اللِّئَامِ. بقلم/ حصة الزهراني ماجستير في العلاقات العامة والإتصال المؤسسي