بالطبع هناك أشياء لا يمكن لأي شخص أن يبوح بها، وإن أظهرها أو على أقل تقدير فضفض بها فلا شك بأنه ضرب من الجنون، فإذا كان الصمت قاتلاً خانقاً احياناً فإن البوح قد يكون أمَّرُ من ذلك في مجتمع لا يؤمن بالبوح بالمشاعر وما أنا إلا واحد من ذلك المجتمع، فقد أبخل بمشاعري حتى على أقرب الناس؟كيف لا وهي تعد عند عامة العربان من خوارم المروءة. أهل الفراسة أو الحدس الحاد قد يكتشفون أو يستشفون بعض بواطن الأمور ولهذا قد نجد تبريراً في البوح بها من باب أنها قد تكون في الكثير منّا أو عند البعض على أقل تقدير توفيت جدتي ثم جدي ثم أمي ثم أخي وزوجته وابنته ثم ابني ثم عمي ثم عمتي ومررت بأوقات كثيرة عصيبة جداً ولم أبكي كثيراً، وبقيت صامداً متماسكاً صحيح بأنني أنهار وتخور قواي وتسيل عيناي، ولكن عندما أكون في عزلة عن البشر وفي مواقف صغيرة جداً وفي أحايين كثيرة لا اتمالك نفسي من البكاء في مجلس عام، في طائرة، في شارع، في مطعم أو عند شخص أعتبره منِّي تمر أمام عيني مواقف عابرة وسريعة، قد لا يلتفت إليها الكثير، ولا يأبه بها المحيطون بها، وأجد نفسي متأثراً باكياً حزيناً طوال اليوم تمر في مخيلتي أشياء كثيرة، قد تكون نسجاً من الخيال، وقد تكون من مخزون الذاكرة، فأكون الضحية مرة، ومرة أخرى مواسياً، واحياناً باكياً، وكثيراً متألماً ومتأسفاً لعدم البوح بمشاعري أو لعدم اتخاذي القرار المناسب في حينه هل أنا مريض؟ هل أنا رجل طبيعي؟ هل أمثالي كثير؟ هل من أسباب متراكمة سابقة؟ هل أنا أُمثِّل؟ هل أنا أضحك على "أنا"؟ هل يعقل لرجل سوي أن يخرج من المدينة ليبكي وحيداً فوق كثبان رملية في عز الظهيرة حتى ينشرح صدره ثم يعود لبيته؟ هل يعقل من عاقل أن يسافر ليبكي على ضفاف النيل حتى يرتفع منسوبه ثم يعيد أدراجه لوطنه؟ هل تسيّب أحد منكم يوماً من مكتبه ولجأ لسيارته لدقائق، فقط ليبكي ثم يعود لمزاولة عمله وكأن البكاء أصبح من مهام عمله؟ كثرت "الأنا" هنا على غير العادة، ولكنها حتماً ليست ضرباً من النرجسية أو العظمة، إنها هنا نوع من الاستسلام أو لعله الانهيار