في عالمٍ يصرخ بالمنطق، ويُخضع كلَّ شيءٍ لمعايير القياس، يظلُّ "الاختيار" بين الأرواح لغزاً مُعلَّقاً بين السماء والأرض، فكيف لقلبٍ أن يهبط فجأةً على شاطئ روحٍ أخرى، مُتخطياً بحاراً من الوجوه والأصوات، وكأنما قدرٌ خفيٌّ يجرُّه نحو مرساه بغير إذن؟ وكيف لشخصٍ أن يرى في آخر وطناً، رغم أنَّ الأرض التي تحت قدميه لا تزالُ تهتزُّ من زلازل الماضي؟ الحبُّ - أو الاختيار - لا يسيرُ على خطٍّ مُستقيم، إنَّه يظهرُ كضوءٍ فجائيٍّ في غرفةٍ مظلمة، يُضيء تفاصيلاً لم نكن نعرف أنَّنا نبحث عنها. قد يكونُ الشخصُ الذي نلتقيه قد مرَّ بنا ألفَ مرّةٍ في زحام الحياة، لكنَّ اللحظةَ التي تُقرعُ فيها أجراسُ المصادفة تكونُ مختلفة، كأنَّ الأرواحَ تتعارفُ قبل الأجساد، وكأنَّ القلبَ يَقرأُ في عينَي الآخر سطوراً من ذاكرته المجهولة. لا يختارُ الضعيفُ أن يمنحَ ثقتَه لمن لا يستحق، لكنَّ القويَّ وحدهُ يجرؤ على أن يرى الجمالَ في قلبٍ لا يزالُ يُرَتِّبُ فوضاه. قد يكونُ الاختيارُ هنا تحدياً للذات قبل أي شيء. أن تُحبَّ ما هو ناقصٌ دون رغبةٍ في إكماله، أن ترى السَّماءَ في عينَي مَنْ لا يزالُ يبحثُ عن أرضٍ يطأها، إنَّه قرارٌ يشبهُ زرعَ زهرةٍ في أرضٍ صحراوية، لأنَّك تُصدقُ أنَّ الجذورَ ستجدُ طريقَها إلى الماء المختبئ تحت الرمال. أعمقُ ما في الاختيار أنَّه لا يحتاجُ إلى تبرير، فالحبُّ الحقيقيُّ لا يُعلنُ عن نفسه بضجيج، بل ينسابُ كنسيمٍ يملأُ الفراغات بين الكلمات. قد تكونُ الطمأنينةُ مجرّدَ حضورٍ هادئٍ لشخصٍ يفهمُ الصمتَ دون أن يكسره، أو لمسةٍ تُعيدُ ترتيبَ الفوضى بداخلكَ كما تُرَتَّبُ النجومُ في السماء إنَّه الشعورُ بأنَّك لستَ بحاجةٍ لأن تُشرح، لأنَّ الآخرَ يقرأُك بلغةٍ لا تحتاجُ إلى حروف. ربما يأتي الاختيارُ متأخراً، بعد أن تُثقِلَ الحياةُ الأكتافَ بالشكِّ والخيبات، لكنَّ الأرواحَ التي تعرفُ طريقَها لا تُسرعُ، ولا تتوقّفُ عند حدودِ الساعات قد يلتقيانِ في منتصف العمر، أو على حافة الغروب، لكنَّ اللقاءَ يظلُّ مبهراً كأنَّه البدايةُ الأولى للوجود. فالقلوبُ التي تَتعثرُ في البحثِ عن بعضها تُدركُ أنَّ الزمنَ مجرّدُ رقمٍ، وأنَّ اللحظةَ التي تلتقي فيها الأقدارُ هي المهم الآن...
في النهاية، يبقى الاختيارُ سراً من أسرار الوجود، فنحنُ لا نصنعُه بقدر ما نستسلمُ لِما يُكتَبُ لنا بلا حبر ولا ورق. قد نُسمِّيه قدراً، أو صدفةً، أو شيئاً من الجنون، لكنَّه يظلُّ الدليلَ الوحيدَ على أنَّ الحياةَ ليست معادلةً رياضية، بل قصيدةٌ لا تُفهَمُ إلا بالقلب. فالشكرُ كلُّ الشكرِ لمن يختاروننا رغم فوضانا، ورغم أنفِ المنطق! وكما قال: الشافعي الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيرًا لها أعياك.. إنه الله في كل العجائب ماثل إن لم تكن تراه فإنه يراك .. بقلم/ حصة الزهراني ماجستير في العلاقات العامة والإتصال المؤسسي- وزارة التعليم