نار «الأصلية» أم هجير «التشاليح» ؟    492 ألف برميل نفط يومياً وفورات يومية    مقامة مؤجلة    هوس «الترند واللايك» !    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    أمير حائل يرفع التهنئة للقيادة نظير المستهدفات التي حققتها رؤية المملكة 2030    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    افتتاح المعرض التشكيلي "الرحلة 2" في تناغم الفن بجدة    أمير جازان ونائبه يهنئان القيادة بما تحقق من إنجازات ومستهدفات رؤية المملكة 2030    60 مزارعا يتنافسون في مهرجان المانجو    هيئة السوق المالية تصدر النشرة الإحصائية للربع الرابع 2023م.    الصحة: رصد 15 حالة تسمم غذائي في الرياض    "أوبرا زرقاء اليمامة" تبدأ عروضها بحضور عالمي    الهمس الشاعري وتلمس المكنونات    الأخضر تحت 23 عاماً يواجه أوزبكستان في ربع نهائي كأس آسيا    أمين الرياض يحضر حفل السفارة الأميركية    تحول تاريخي    المملكة تبدأ تطبيق نظام الإدخال المؤقت للبضائع    العين يكشف النصر والهلال!    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    فلسطين دولة مستقلة    محمية الإمام تركي تعلن تفريخ 3 من صغار النعام ذو الرقبة الحمراء في شمال المملكة    الفيحاء يتجاوز الطائي بهدف في دوري روشن    تفكيك السياسة الغربية    القيم خط أحمر    لو ما فيه إسرائيل    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس جمعية «قبس»    مقال «مقري عليه» !    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الرياض    الكشف عن مدة غياب سالم الدوسري    أرامكو السعودية و«الفيفا» يعلنان شراكة عالمية    ريال مدريد في مواجهة صعبة أمام سوسيداد    مانشستر سيتي يضرب برايتون برباعية نظيفة    النواب اللبناني يمدد ولاية المجالس البلدية والاختيارية    الهجوم على رفح يلوح في الأفق    سلمان بن سلطان يرأس لجنة الحج والزيارة بالمدينة    رئيس الشورى يرأس وفد المملكة في مؤتمر البرلمان العربي    حزمة الإنفاق لأوكرانيا تشكل أهمية لمصالح الأمن الأمريكي    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال82 من طلبة كلية الملك عبدالعزيز الحربية    أمير القصيم يثمن دعم القيادة للمشروعات التنموية    إطلاق برنامج تدريبي لطلبة تعليم الطائف في الاختبار التحصيلي    مريض سرطان يؤجل «الكيماوي» لاستلام درع تخرجه من أمير الشرقية    "ذكاء اصطناعي" يرفع دقة الفيديو 8 أضعاف    مستشفى ظهران الجنوب يُنفّذ فعالية "التوعية بالقولون العصبي"    «رؤية 2030»: انخفاض بطالة السعوديين إلى 7.7%.. و457 مليار ريال إيرادات حكومية غير نفطية في 2023    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    استمرار هطول أمطار رعدية مصحوبة برياح نشطة على المملكة    تسليم الفائزات بجائزة الأميرة نورة للتميُّز النسائي    أدوات الفكر في القرآن    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    النفع الصوري    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحن من تسبب في الخسارات والخذلان.. وكنا نبتسم رغم الفقد
على ظهر كائن عملاق في نيويورك «مسرحي» وروائي «يفلسفان الحب والطيبة والخسارات:
نشر في الرياض يوم 29 - 11 - 2014

أول مرة ركبت فيها القطار كنت في سن الخامسة من عمري، أذكر في تلك الأوقات بأنني شعرت بدهشة تشبع روحي حينما وقفت أمام جسد هذا الكائن الحديدي الكبير الذي لا يلتفت لأحد أبدا.. وأنا أتمسك بالأبواب الجانبية أثناء صعودي على الدرجات المتقاربة لأصل إلى المركبة، كنت أحب أن اختار مكانا مجاورا للنافذة التي كانت تطل على صحراء شاسعة تلتهم سكة الحديد كلما انطلق القطار بسرعة الزمن، كنت أنظر بدهشة إلى هذا العملاق الذي كان يحملنا على ظهره دون أن يوقفه أحد.. فيما كانت أمي تراقبني حتى لا أقف على المقعد فأقع.. دون أن تعلم بأنني أخشى الوقوف على الأماكن العالية غير الثابتة.. هنا.. يمر القطار ليحملني إلى شمال القلب.. حيث ألتقي بكاتبين يفتحان أمامي سبل الطرق الحديدية إلى طرق أكثر خضرة واتساع.. يحدثاني عن الخيبات والخسارات وعن الثقة والحب وشيء صغير اسمه الفرح.. الحديث بيننا حدث ولكنه خارج المكان، خارج خارطة الأرض وداخل حدود القلب. ولمن أراد أن يحلم.. فليدع الباب مواربا للأحلام ويصغي إلى تلك المرأة التي حملت حقائبها في «محطة « غراند سنترال» في نيويورك لتلتقي برجل يجيد تحريك خيوط الشخوص فوق مسرح الحياة الشاسع إنه الكاتب المسرحي «فهد ردة الحارثي» ومن يجيد رصد الارتياب في زمن كله ريبة «الروائي « بدر السماري».
لم يسرقني شيء.. فالورد يبقى ورداً حتى إن تخشب
** كانت محطة « غراند سنترال « في نيويورك مدهشة حقا.. دخلت إلى فنائها الواسع وأنا أحمل حقيبة السفر الخاصة بي، بجيوبي تذكرة السفر، وعلى صدري أعلق كاميرتي السوداء التي كنت أرصد فيها بعضا من لمحات الحياة الهاربة دون أن يشعر بها أحد.. كنت استمع إلى أصوات المارة من المسافرين في تلك المحطة فأجد أن هناك كلاما أعمق خلف تلك الثرثرة المعلنة.. أضع حقيبتي بجانب مقعدي أرقب المارة كمن يفتش فيهم عن حكايته.. هناك ألمح «فهد ردة الحارثي» يطلب له بعض القهوة.. فيما يقف بجواره «بدر السماري» الذي ينظر إلى تلك المنحوتات التي نحتت بشكل متقن لشخصيات شهيرة جدا والمتعة تسكن روحه.
أقترب منهما.. أبادلهما التحية.. وأخبرهما بأنني في رحلة سفر إلى الضفة الأخرى من الأشواق.. فيما يخبراني بأنهما يمتلكان تذكرتين على متن رحلة بوح يمسكان بها من أقصى القلب إلى حدود الشمال.. نتناول حقائبنا ونسير معا إلى هنا.. فمازال هناك متسع من الأمل.
بدر السماري في أحد مقاهي باريس
** نختار لنا طاولة مجاورة للصمت.. نتأمل المارة والوجوه التي تسير على عجلة من أمرها فيما يختار البعض منهم مكانا له للانتظار
أتأمل هؤلاء العابرين كرسام يشتهي أن تنفلت ريشته إلى ألوان قلوبهم
** فهد يرتشف شيئا من قهوته.. يضع الكوب على الطاولة وينظر إلي ثم يبتسم:
ماذا ياعبير.. هل تفتشين عن شيء ما في وجوه المسافرين؟
عبير:
في السابق كنت أفعل ذلك.. أما الآن فلست بحاجة لأن أفتش عن أي وجه.. فالوجوه كلها أعرفها جيدا.. منها من طبعت صورته بداخل قلبي ولن تغادره أبدا.. والبعض...
بدر مقاطعا:
وماذا عن البعض؟؟
عبير:
وأعرف البعض منهم.. ذلك الوجه الذي خذلني.. أعرفهم جيدا.. طعم الخذلان مر.. والأكثر قسوة منه الثقة بهم.. كم كان يصعب علي رميهم من النافذة.. في كل مرة أجد قلبي يتألم كنت أحاول تغيير مصير معرفتي بهم.
لا تغادر مكانك فتسقط دون
أن تجد من يحملك إليك
فهد:
أنا لا أفعل ذلك - ياعبير - يظل الورد ورداً مهما ذبل، عندي باقات كثيرة متخشبة، تحولت للوحات أنيقة، لاعتقد أني خذلت كثيراً حتى عندما خذلت كنت أذهب نحوي، ثم أصنع قهوتي وأظل ألتمس الأعذار وأرمم الخواطر، ثم أنظر للحياة كم هي صغيرة، وكم هي لا تستحق أن نتقاتل فيها من اجل شيء، نسمة عطرية تظل عالقة في وردة متخشبة خير من حذاء نقلب به الأمور.
**ينظر إلى سكة القطار.. ثم يقول:
مضيت دوماً في طريق لم أفقد به الكثير، حتى من فقدتهم ظلت صورهم مشنوقة بحبل على جدار ثابت، كنت ابتسم دوما دون أن افقد شيئا، قد تبدو النظرة مثالية بعض الشيء، لكني استشعرها في واقعي الآن وهو أمر أشبه بمن كاد أن يخرج منه فعاد له، ماكانت الحياة غايته لكنه تمسك بها، وكادت له كيداً عظيماً فكاد، ثم تدارك أمره فعاد، ماكان له أن يظل واقفاً فتسرقه الريح ويفقد طريقه البوصلة، شد نفسه لسارية المركب وأبحر بعيداً حيث هو، لم يسرق أي شيء مني، فالورد يظل ورداً حتى لو تخشب.
بدر مع الروائي يوسف المحيميد في أحد الملتقيات السردية
** يضع بدر بعض الكتيبات عن أهم الأماكن السياحية المتجه إليها القطار على الطاولة.. ثم يعلق:
الخذلان وخيبات الأمل حقيقة تواجه كل إنسان على هذه الحياة، هذه هي الرؤية البسيطة للمرء، واختياره الأول من حزمة الأعذار حين يقول: «ثمة من خذلني».. لكني أرى الأمر مغايرا لهذا الفهم، أجده يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحجم التوقعات، السقف العالي لتوقعاتنا هي التي تخذلنا، الآخر الذي خذلنا ليس معنياً بسقف توقعاتنا العالي، لو كان السقف منخفضاً لما شعرنا بطعم الخذلان.. كم مرة؟ لا أعلم.. كنت سابقاً أرى بعض المواقف خذلان، لكني ألوم نفسي حين أتأملها الآن، أرى أني أخطأت في سقف التوقعات العالي.. كل إنسان هو المذنب الأول حين يتعلق الأمر بمن خذله، مجرد أنه كان مفرطاً بالتفاؤل.
أتوق إلى تلك الحقائب الخفيفة التي تأخذنا نحو الذاكرة المتسعة
** أنظر إلى بدر بإمعان كمن يحاول أن يستوعب ماقاله.. أقبض على أصبعين من أصابع يدي.. وأخفض رأسي إليهما كمن يحاول أن يشيء بسر.
عبير:
هل تعني يا - بدر - بأن القلب الذي أحببناه ووثقنا به من الممكن أيضا أن يخذلنا.
بدر:
وهل المطلوب يا عبير أن يتخلى الآخرون ويتوقفون عن خط سيرهم لأجلنا؟
عبير:
ليس ذلك ما اعني.. ولكن ألم تقرأ ما يقوله أحمد شوقي «هجرت البعض طوعا لأنني رأيت قلوبهم تهوى فراقي.. نعم أشتاق.. لكن وضعت كرامتي فوق اشتياقي»... ما الأهم الالتصاق بقلب يشتاق.. أو التشبث بكرامة مازال تنزف خذلانا؟
بدر:
لماذا لا نقرر إذا أن نمضي معهم إن كان الأمر يستحق الالتصاق كما تصفين؟.. هكذا هي الحياة، محطات.. أحب الوقوف فيها لبرهة، لكني أكره الثبات والوقوف المطلق، أحب لذة الحنين لهذه اللحظات، لكن لكل إنسان خط سير مختلف، من الصعب أن يمضي معنا في هذا الخط سوى القلة، هذا المحطات تجمعنا وتجعلنا نتوقف ونتذوق الرفقة المبهجة في الحياة سوياً، أنها تضفي طراوة على الحياة.. لكن الثبات شيء يقتل حيوية الحياة.
فهد في حديث عن المسرح
فهد:
أعتقد أنها قضية يقين أولاً، في القلب شوق لكن في اليقين يقين، أنت لست أنت دون يقين بك، في داخلك حيث يتكون الأمل ويكون، في داخلك حيث اليمام والنخيل الباسقات وكروم العنب، في داخلك حيث الليل والنهار والشمس والقمر والسنوات التي تسرقك منك، كل شيء يحتاج لأن تكون أنت حيث أنت، لاتغادر مكانك فتسقط دون ان تجد من يحملك لك، وكأنت وكجمع كبير يريد النقاء، لاشيء في الرحلة القادمة غير أصواتنا نشتهي الأفق ونلوذ بنا، ورأس مالنا كلمة وموقف ويقين بنا، متى ماكان حبك يقينك ذابت الفواصل والثارات وعمم الكرامة.
** تسقط من حقيبتي بعض الكتب المتكدسة في جيوبها الأمامية.. يقطع حديثه «فهد» ويقول لي مداعبا:
حقيبتك مثقوبة ياعبير..
** أنحني على الأرض وألتقط الكتب ثم أقول:
ما المثقوب بالضبط.. الحقيبة أم القلب؟
بعد سنوات طويلة وجدتني أعبر الحياة بعد أن تساقط من الحقيبة التي أعلقها قريبا من قلبي الكثير من الناس.. لست أعلم هل الحقيبة مثقوبة؟ أم أن الأشخاص هم المثقوبين.. حقا لا أعلم.
القلب رفيق متهور مجازف نزق وخلف كل باب بطل يبحث عن بطلة
** أدخل الكتب في الحقيبة بعد أن أوسعها قليلا.. ثم أكمل:
كل ما أعرفه بأن الكثير من الوجوه تساقطت بعد أن ثقبت الحقيبة معها..
بدر وهو يضحك:
أشكر الله دوماً أن الحقيبة مثقوبة،
** ينزل حقيبته من فوق المقعد.. ويضعها على الأرض ثم يكمل:
وأن الحياة تمضي بحلوها ومرها، لو أن هذه الحقيبة ما زالت ممتلئة لأصبحت ثقيلة الحمل، ولصارت أعبائها ثقيلة علينا.. من الصعب أن يظل المرء حبيس الصور التي في ذاكرته، ومن الجميل أيضاً أن تتجدد هذه الذاكرة، بصور جديدة وتجارب ثرية، الحياة جميلة بهذا التنوع والتجدد، أنا ضد الجمود والتوقف في محطات الحياة وقفة أبدية، أحب أن أمضي مع تدفقها وتجددها وتنوعها، لولا أن هذه الذاكرة تتسع للمزيد، لما أتسعت آفاق المرء وزادت ثراء.
فهد:
هو أنت بكل مافيك، يرحل الناس دوماً لا بقاء ولا قرار، الموت، القطار، المحطات، المطارات، ظروف الحياة، وتظل أنت لك، أحدق خلف الطريق، لاشيء يبدو في الأمام حتى أحدق فيه، أشياء كثيرة تعبرني دون أن تتوقف عندي، أيضاً انا أعبرها دون أن أتوقف عندها، بينما يمضي الطريق دون أن يلتفت لحركة العابرين، أجلس على كرسي القيادة وحيداً، أجادلني في المسافة القادمة، أضع قدماً على الآخرى استمع لمذيع غبي ينقل صوت المواطن ليتنفس ضجره دون فائدة.
** يسند رأسه على باطن يده.. ينظر إلى المسافرين.. ثم يهمس:
طال طريقي ومازلت احدق فيه دون استيعاب له، (رحل الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا) ومع ذلك هم مازالوا قريباً من ذاكرة تظل تقلب ألبومات صورهم دون ملل
** يقف بدر.. يقول:
مارأيكما أن نتجول قليلا في غراند سنترال..؟
** نمر عبر فناء تلك المحطة المتكدسة بالمسافرين.. نقترب من محل صغير يبيع بعض الحلوى والمشروبات وبعض الألعاب الصغيرة
أحمل لعبة صغيرة.. أضغط على مفتاحها فتدور بشكل سريع مصدرة بعض الأصوات.. أعاود غلق المفتاح في محاولة يائسة لإيقافها
فهد مشاكسا:
كوني طيبة ياعبير حينما تديرين مفاتيح اللعبة؟
عبير:
هذه «الطيبة» وذلك الحجم الكبير من الأنهار المتدفقة التي تسكن روحي.. جميعها كانت خلف طعن الكثيرين لي من الظهر.. كم هي قاسية الخديعة! وكم هو مؤلم أن تدخل لعبة الخديعة وأنت تبتسم ببراءة.
بدر:
لا يوجد لعبة نزيهة قبل كل شيء، هو شيء أشبه بالمستحيل، المنطق يقول ذلك.. وأنا أحترم المنطق جداً، البعض يقول أن الحياة لعبة كبيرة، ولا أتفق مع هذا القول، لكنها ممتلئة بالألعاب، بعضها مسلية، والبعض الآخر قاتل.
بدر قرب قلعة أدنبره
عبير:
وماذا عن النزاهة؟
بدر:
عني أنا لم أعد أتوقع النزاهة المطلقة، لا أفترض سوء النية أيضاً، لكن الأمر يتطلب التوازن، الطيبة شيء والسذاجة شيء آخر، الطيبة اختيار الإنسان للعطاء، السذاجة عطاء ليس باختيار المرء، وأنا لا أحب أن أكون ساذجاً، ولا أفترض أني طيب في كل الحالات، أرغب دوما في تحديد اتجاه بوصلة الطيبة.. إذا فشلت صارت أقرب للسذاجة، والحياة دوما تدفعنا لداخل هذه اللعبات غير النزيهة، الكتابة السردية على سبيل المثال لعبة، هي لعبة مسلية بلا شك، لكنها تتطلب حداً أدنى من النزاهة الأدبية، ليس من المعقول أن أكتب بدافع تصفية الحسابات، الفن يتطلب الحد الأدنى من النزاهة، وعكس ذلك يجعل الكتابة السردية محملة بالأيديولوجيا والخطابية، الكتابة السردية علمتني هذا الاشتراط..
أحب ذلك الشك الذي يشعل الصراع بين القلب والعقل
** يأخذ اللعبة من يدي.. يضعها على طاولة العرض. ثم يقول:
سأفترض - يا عبير - أنها أحد اشتراطات البقاء في هذه الحياة، وفي هذه الحالة، سأعتني بنزاهتي، سأعمل بالحد الأدنى من النزاهة، ولن أطلب من الآخرين شيئا..
** أنظر إلى فهد..
عبير: وماذا عنك؟
فهد:
لا أعتقد أني تعرضت لذلك كثيراً.. الطيبة ليست سذاجة، لايخدعني شيئا بسهولة، تعلمت من المسرح الكثير، تعلمت في المسرح أن يكتب الأبطال أنفسهم وكأنهم يقدمون شخصياتهم للمرة الأولى، هم يعلمون أنهم كولاج لشخصيات سابقة، لكنهم يخدعون أنفسهم بدور البطولة، تعلمت أن الخديعة لا تعيش طويلاً مع الصدق، تعلمت أن أدوار البطولة ليست معلقة بالنبلاء، لذلك كنت اقرأ وجوه الناس وتفاصيلهم وأحوالهم وظروفهم لاشيء يخدعني به بسهولة
** أشعر بالبرد.. أتناول معطفي وارتديه.. بعد أن أسحب يدي تحت أكمام المعطف.
فهد مبتسما:
البرد شديد هنا..
تعلمت أن الخديعة لا تعيش طويلاً مع الصدق
عبير:
هذا البرد لا يضر.. البرد الحقيقي في الروح.! يسكن البرد والخوف في الروح حينما تخذل المرأة من الرجل الذي تحبه.. وربما يخذل الرجل كذلك.. حينما يعيش كلاهما حكاية خذلان ممن اعتاد أن يقطف الزهور ليتركها تتنفس قريبا منه.
** أنظر إلى بدر:
وماذا عن صباحاتك - يابدر - هل وجدت يوما من يقطف الزهور ويضعها قريبا من عتباتها..
بدر:
نعم عرفت الحب وتذوقته، ووجدت قلبي يغني للعشق وما زال، الحب شيء جميل وأساسي، وأظن أن الإنسان يحتاج للحب بقدر حاجته للمحبوب، بل أن الحب حاجة ماسة للحياة بقدر حاجة الإنسان للغذاء.. نعم أحببت وعشقت وما زلت، وأتمنى أن لا أجرب الفقد أو الفراق، لدي تخيل رهيب لهذا الشيء خصوصا في وسط المحيط العائلي، أحياناً أتصور أنه خارج قدرة الإنسان على التعايش معه، وأحياناً أرى أنه محطة يجب على المرء التوقف فيها، وأنها سوف تأتي ذات يوم.. الأمر بلا شك قاسٍ جداً على الإنسان، لكني أيضا أؤمن بقدرة الأنسان الفائقة على تجاوز ذلك..
فهد:
هما مكونان من نفس النسيج لا مشاعر خاصة بالمرأة ومشاعر خاصة بالرجل، قد تختلف مكونات العقل والقلب لديهما، لكنهما يملكان الشعور بأن الخذلان له طعم مر، أبواب الخذلان كثيرة لكن دوما هنالك باب خلف هذا الباب باب، ألف باب، كل باب خلفه ألف قصة، كل قصة لها بطل، كل بطلة يبحث عن بطلة، كل بطلة تبحث عن بيت، كل بيت يبحث عن باب، كل باب خلفه قصة، الخذلان ليس امرأة ولا رجلاً، هو حالة تتلبسها ظروف كثيرة تهوي بنا وبها، لكن من كان لديه يقين به لن يهزمه الخذلان أبداً
الحياة تدفعنا نحو اللعبات غير النزيهة والقيم من تنتصر أخيراً
** أقف.. أحمل كاميرتي بين يدي.. أقلبها كمن يستعد لالتقاط صورة.. ثم أعلق وكأن الأمر لا يهمني
عبير:
وماذا يعني أن تكون وفيا؟
فهد:
لاحكم عام على الأمور، كثيرة طباع البشر ومختلفة ومتنوعة، بها الخير والشر، في تصوري أن من يعطي من أجل أن يأخذ يكون قد ظلم نفسه في معادلة صيارفة – أعطني وخذ – عندما تبدأ في العطاء لاتنتظر الرد، ولاتنتظر الوفاء، اعط لأنك ترغب في ذلك، وبالتالي من كان وفياً لك كان وفياً لنفسه، ومن تنكر وغدر فقد ضر نفسه، سيبدو الأمر عسيراً في بدايته تعطي دون أن تطلب لكنه الصواب لك، أعط وأرمي للبحر، وليكن في اليقين أن الخير لايذهب عند الله وعند الناس
بدر:
الوفاء - يا فهد - خصلة تأتي بعد العطاء، حين يعطيني الآخر، علي أن أبادله العطاء كوفاء.. لكني حين أفعل الخير فيجب أن أرميه بالبحر، حتى لا أتعرض للخذلان، المنطق بسيط، يشبه المعادلات الهندسية، وأنا أحب الرياضيات والهندسة وأحترم المنطق كثيراً.. علي أن أكون وفياً، على الأقل أحاول، لكني حين أبادر بالخير، سأفعله وأرميه في البحر حتى أفرح بالوفاء حين يأتي ولا أتعرض للخذلان، أظن أن ذلك اختيار قاسٍ وصارم، لكني أحاول بصرامة مع نفسي، أعودها لتعتاد.
من فقدتهم
ظلت صورهم مشنوقة بحبل
على جدار ثابت
** أرفع الكاميرا عاليا.. أتراجع بخطواتي إلى الخلف.
عبير:
هيا يا بدر.. أقترب من فهد لألتقط لكما صورة تذكارية في محطة غراند سنترال..
أضغط على الفلاش لألتقط أكثر من الصورة..
فهد مشاكسا:
متى سنحصل على صورنا..
** أقول وأنا أحدق بشريط الصور في الكاميرا..
سأفعل.. فقط. أنتظر حتى التحميض.. ثم سأعطيك صورتك لتكون مرآتك التي ستنظر من خلالها إلى فهد.. وكذلك سيفعل - بدر - وسأرى ماذا ستقول لها.. وأي صراع سيبدوا أكثر شراسة في تلك اللحظة.. شراسة صراع الضمير أو صراع القلب.
فهد:
لا أقف أمام المرآة طويلاً هي لحظة عبور خاطفة من اجل تفقد تجاعيدي الجديدة
** نضحك جميعا.. ثم يكمل:
لكن الصراع بين القلب والعقل والنفس والروح لاينتهي، هو صراع قيم وكلما سيطر العقل والروح أنت بخير وكلما تمكن القلب والنفس ستموج طويلا بك الأشياء، العقل ميزان رجل صارم جاد، والروح تكوين نوراني بهدف ومثل وقيم، بينما القلب رقيق متهور مجازف نزق والنفس أمارة بالسوء، هنا يكمن سر المعادلة في بحثنا عنا، المرآة لاتكشف لنا إلا سطحاً ظاهراً، لكن صراعات القوى داخلك هو مايجلب لك الخير والشر ومابينهما
** يتناول بدر الكاميرا. ينظر إلى صورته فيبتسم ويقول:
حينما أنظر لبدر.. فإنني أقول له حافظ على توازنك إذ لم يبق الكثير، أظن أني كنت صارماً جداً مع هذا الواقف أمام المرآة، لكنها طبيعتي، نشأت على الصرامة وأحببتها إذ أنها تمدني بالقوة اللازمة لمواجهة الصراعات الداخلية، وكذلك حتى أتمكن من المواءمة بين كل هذه الصراعات.
** ينظر إلي.. يضع الكاميرا بين يدي.. يعلق:
بالمناسبة - يا عبير- أحب هذه الصراعات الداخلية، صراع العقل والقلب وصراع الضمير، صحيح أني أتحايل عليها في بعض المرات، وتمدني هي كذلك بالحيل، لكنها تبقيني يقظاً، أحب ذلك الشك الدائم الذي ينتج من هذه الصراعات، أرى أنه دافع كبير نحو الاكتشاف والمعرفة يا عبير.
** نسمع نداء ينبه بوصول القطار إلى المحطة وبسرعة التوجه للمركبة.
نقترب من حقائبنا.. أحملها.. وأرتدي قفاز يدي
أنظر إلى فهد.. وبدر.. كمن يجرب أن يقول كلمة وداع أخيرة..
عبير:
هل لديكما القدرة على القراءة!! أعني قراءة الآخرين واكتشاف زيفهم؟
بدر.. يقول بعد أن ينظر إلينا كمن يحاول أن يطبع هذه اللحظة بداخله:
أود أن أكون تلقائياً، وأحب دوماً أن أقابل الناس بابتسامة.. لكن الثقة شيء ثمين، وضعها بيد الآخرين يحتاج قليلاً من التروي، المعضلة أن الحياة وأحداثها لا تعطينا خيارات كثيرة، أحياناً نجد أنه من الحكمة وضع جزء من الثقة مع الآخرين لتمضي الحياة، عدم منح الثقة بالمطلق حتى يثبت لنا مدى أحقيتها يعني لي شيئا من العجز، العجز عن أخذ القرار، وكل القرارات في الحياة تحتاج نسبة جيدة من الثقة كي تأتي بفاعلية القرار.. حتى مع الشخصيات الروائية في النصوص، علي كروائي أن أضع فيها شيئاً من الثقة، كي تتجلى وتصنع الأحداث وتأخذ مسارها الحكائي الصحيح، لا يمكن لبطل رواية ماَّ أن يتجلى في النص سوى حين أضع فيه شيئاً من الثقة، ليمضي في خياراته في الحياة بعيداً عن الدكتاتور في داخل الروائي.. هكذا هي الحياة، يجب أن أمنح الثقة كي تمضي بشرط عدم الإسراف.
فهد وعينيه تمتلئ اتساعا:
أتصور ذلك يا عبير..
مع تقدمك في السن تصبح الأشياء أكثر وضوحاً لاتخدعك الأقنعة كثيراً، يسهل عليك كشفها، تكاثر الأصدقاء والأعداء وباعة الكلام والسوقة ودهماء الزيف، وصيارفة الكلام والمدعين حالة ستنتهي دون ذاكرة حتماً، سيظل الصدق هو الأمثل والأجمل والأبقى..
أما الخذلان فلن أقولها لا أحد، من خذلني خذل نفسه قبلي فلا ضير منه ولا عليه، فقد مضى نحو مدن متحجرة لاتصحو لفجرها ولاتغسل أدرانها.
** يهمس.. لا تنسي أن تبعثي لنا بالصور حينما تصلين إلى أرض الوطن..
يغادران بعد أن تنطلق نداءات الرحلة القادمة من القطار والمتجه إلى الضفة الأخرى من الأحلام..
** أنظر إلى سقف المحطة العالي والمحاط برسوم وزخارف من أوراق الذهب والتي تشير إلى الأبراج والنجوم المتلألة في السماء
أضع يدي على قلبي.. أهمس..
يوما ما... ستكون هناك نجوم تهبنا إياها الأماني لنتحول إلى بشر حقيقيين دون زيف وخذلان..
أركب القطار.. لينطلق نحو أقصى جهة من شمال القلب.
ذلك القطار الذي لا يستطيع أن يوقفه أحد.. لا أحد على الإطلاق.
فهد في أحد المهرجانات
في لحظات كتابة
بدر السماري مع ابنته شهلاء ولبنى في أحد حدائق لندن
فهد يلقي محاضرة على المسرح
فهد في محاولة لغلق ستار المسرح
بدر في وسط مدينة لندن
بدر في شارع المطاعم الشعبية في طوكيو
فهد في مهرجان مسرح الشباب والأمل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.