1.380 ميار ريال دعم سعودي جديد لليمن    ولي العهد والرئيس الفرنسي يناقشان نتائج مؤتمر حل الدولتين وتفعيل الجهود الدولية    «الداخلية»: العلم السعودي .. مجدٌ متين .. وعهدٌ أمين    واجبات ومحظورات استخدام علم المملكة    البريطانيون والرياضيات التطبيقية    القبض على باكستاني وباكستانية في المدينة المنورة لترويجهما «الهيروين»    جمعية التنمية الأهلية في فيفاء تنفذ مبادرة "بصمة إبداع"    الجدية في طلب العلم النهوض وميزان الحضارة    أهالي محافظة طريب يطلقون مبادرة عودة سوق الاثنين الشعبي يوم الاثنين القادم    الشؤون الإسلامية في جازان تشارك في البرنامج التوعوي للوقاية من التدخين    الذهب الجديد    إعلان الفائزين ب «جائزة اليونسكو الفوزان الدولية» التي تدعمها المملكة    رؤية 2030 والسيادة الرقمية    ضبط 21.6 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل والحدود خلال أسبوع    الفريق الفتحاوي يصل الرس ويستكمل استعداداته لمواجهة الحزم    رسالة من رياض محرز إلى جماهير الأهلي    الفخر بطبيعتنا هوية وطن    الترجي يغلق قضاياه الدولية والمحلية ويقترب من تسجيل اللاعبين    المركزي الروسي يرفع سعر الدولار ويخفض اليورو أمام الروبل    أمطار رعدية غزيرة على عدة مناطق    استشهاد 11 فلسطينيًا بينهم أطفال ونساء في غزة    صحف عالمية: الأهلي يقلب الطاولة على الهلال في "قمة لا تُنسى"    البرلمان العربي يُرحِّب بتقرير لجنة التحقيق الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة    بوبا العربية تعقد شراكات تقنية وصحية في مؤتمر "Money 20/20" بالرياض    جودة التداوي والكسب المادي    حق التعليم لا يسقط بالتقادم أين مرونة القبول    أثر الحوار في تعزيز المشاركة لدى طلاب الثانوي    الملحقية الثقافية السعودية: 201 مبتعث ومبتعثة في نخبة جامعات كندا    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    18حكماً يشاركون في إدارة مباريات خليجي تحت 17 عاماً    محافظ الطائف يتوّج الجواد "تلال الخالدية" بكأس الأمير عبدالله الفيصل و"وثاب المشاهير" بكأس الملك فيصل    الأخضر تحت 20 عاماً يواجه المكسيك في ختام مرحلة الإعداد الثانية لكأس العالم    البرتغال: سنعترف رسميا بدولة فلسطين    الرويلي يشهد حفل تخريج دورة التأهيل العسكري للأطباء الجامعيين ال 12 من طلبة كلية الأمير سلطان العسكرية للعلوم الصحية بالظهران    ماريسكا: حياة والدي الصياد كانت أصعب    مستشفى الدرب العام يشهد مبادرة "إشراقة عين" للكشف المبكر عن أمراض العيون    المرور : ترك الطفل وحيدًا داخل المركبة.. خطر يهدد حياته    قطاع تهامة الإسعافي يفعل اليوم العالمي للإسعافات الأولية    إمام المسجد النبوي: القرآن أعظم الكتب وأكملها ومعجزته باقية إلى يوم القيامة    محافظ بيشة يدشن جمعية التنمية الزراعية "باسقات"    جدة تغني حب وحماس في ليلة مروان خوري وآدم ومحمد شاكر    الجهني: أوصي المسلمين بتقوى الله والاعتصام بالكتاب والسنة    خطباء الجوامع: وحدة الصف وحفظ الأمن من أعظم نعم الله على المملكة    جمعية نمو للتوحد تحتفي باليوم الوطني ال95    جلسات منتدى حوار الأمن والتاريخ.. إرث راسخ ورؤية مستدامة للأمن والتنمية    اختتام ورشة عمل بناء العمل الفني بالمدينة المنورة    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع مجلس هيئة تطوير المنطقة    نائب أمير تبوك يكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي    نائب أمير تبوك يدشن حملة التطعيم ضد الانفلونزا الموسمية    قطر: حرب إبادة جماعية    السعودية تطالب بوضع حد للنهج الإسرائيلي الإجرامي الدموي.. الاحتلال يوسع عملياته البرية داخل غزة    زراعة «سن في عين» رجل تعيد له البصر    نائب أمير تبوك يكرم تجمع تبوك الصحي لحصوله على جائزة أداء الصحة في نسختها السابعة    أمير جازان يرأس اجتماع اللجنة الإشرافية العليا للاحتفاء باليوم الوطني ال95 بالمنطقة    وجهة نظر في فلاتر التواصل    خطى ثابتة لمستقبل واعد    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا لا يعلق شئ من عطر ليالي رمضان في نفوسنا؟
نشر في شرق يوم 29 - 08 - 2010

يقول الشهيد سيد قطب : ( إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيما واقعيا لما ينطق ، عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق ، إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة لأنها منبثقة من حياة).
تري كم نريق من أحبار، وكم نسود من صحائف، ثم لا ينصلح حالنا؟في رمضان وفي غيره ،تري لماذا لا يعلق شيء من عطر وشذا وأريج ليالي رمضان ويبقي منه في أنفسنا شئ؟نخرج من المساجد،فنقرض أخواننا بألسنة حداد ، نصوم يومنا كله لكننا بدلا من الإفطار علي تمر وماء، نقع علي جيف هي لحوم إخواننا!لماذا لا تغير أيام وليالي رمضان في أنفسنا وطبائعنا كثيرا؟ ثم ما فائدة ما نكتب إن كنا لا نعقله ؟وما فائدة ما نقرأ من كتب، أولها القران الكريم، وكتب السير والفقه والعبادات إن كنا لا نتدبر ولا نعقل ما نقرأه ؟ لماذا تولد كلماتنا ميتة لا روح فيها ؟
قيل لأحد الحكماء: مالك تدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض فقال: لأذكر أني مسافر .
حملت العصا لا الضعف أوجب حملها ..عليّ ولا أني تحنيت من كبر
ولكنني ألزمت نفسي حملها ....لأعملها أن المقيم على سفر
وقال آخر:
هذي الدقائقُ تَسْتَحِثُّ خُطَانَا لنسير في عَجَلٍ إلى أُخرانَا
وكتب بعض السلف إلى أخ له: يا أخي! يُخيل لك أنك مقيم؛ بل أنت دائب السير، تُساق مع ذلك سوقًا حثيثًا.. الموت متوجه إليك، والدنيا تُطوَى مِن ورائك، وما مضى من عمرك فليس بعائد عليك إلى يوم التغابن أي يوم القيامة .
وكان الحسن البصري يشيع جنازة، فأخذ بيد رفيقه قائلا: ماذا يفعل هذا الميت إذا عاد إلى الحياة؟! فقال: يكون أفضل مما كان قبل الموت. فقال الحسن: فإنْ لم يكن هو فكن أنتَ..وإن لم يكن ذلك الشخص فلنكن نحن جميعا.
نعم نحن جميعا مسافرون الي فضاء آخر، غير هذا الذي نعيش فيه، ولكن قلة منا تعد الزاد للسفر، و يقول ابن القيم رحمه الله : (لم يزل الناس مذ خلقوا مسافرين، وليس لهم حط لرحالهم،إلا في الجنة دار النعيم، أو في النار دار الجحيم، والعاقل يعلم أن السفر بطبعه مبنيٌ على المشقة،والأخطار بل هو قطعة من العذاب ، ومن المحال أن يطلب في السفر عادة النعيم، والراحة واللذة والهناء، فكل وطأة قدم للمسافر بحساب، وكل لحظة ووقت من أوقات السفر، غير واقفة والمسافر غير واقف، فإذا ما نزل المسافر أو نام أو استراح، فهو على قدم الاستعداد، للسير في قطع المفاوز والقفار، أما عدة المسافر وزاده: فإيمان وعمل صالح.
فهل نستفيد من رمضان ولياليه؟ ونعد العدة والزاد للرحيل الأبدي؟نعم كلنا بحاجة إلي الكثير من الأعمال الصالحة ،في رمضان وفي غيره، نعم كلنا مقصر في جنب الله، نعم معظمنا لاه مع الحياة وتقلباتها، نعم رمضان فرصة قد لا تتكرر علي بعضنا فهل نستفيد من نفحاته العطرة ؟
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف:30)
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (الكهف:107)
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96) . فالإنسان المسافر مهما تكن مواهبه، ومهما يكن عطائه ، ومهما تكن قدراته، فإنه يبقى محدود الطاقة والقدرة، ما لم يكن له أعوان يشدون أزره، ويقوون أمره، يذكرونه حين ينسى ، يعلمونه حين يجهل، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه. فليست هذه الكلمات الصماء الخرساء التي لا روح فيها سوي تذكير لنفسي وإياكم لنعد حقائبنا ونملأها بصالح الأعمال استعدادا للسفر
وما المرء إلا بإخوانه ......... كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة ... ولا خير في الساعد الأجذم
كم رمضان شهدنا؟ كم عيدا مر بنا؟ كم من دقائق عمرنا مرت؟ فالعمر ثوان ودقائق وساعات وأيام وشهور وسنوات .
دقات قلب المرء قائلة له ان الحياة دقائق وثواني
ومهما تطول بنا الأعمار فإننا لا محالة مسافرون
وكل أبن أنثي وإن طالت سلامته يوما علي اله حدباء محمول
فهذا شهر رمضان مضي ثلثه الأول رحمة، ودخلنا إلي ثلثه الثاني ننتظر مغفرة من الله فيه ثم إلي ثلثه الأخير نرجو فيها عتقا لرقابنا من النار،لكن تري هل نفوز بما وعدنا فيه ؟الإجابة تحتاج إلي خوض غمار الجهاد الأكبر، جهاد النفس،فالنفس من طبعها حب التفلت والانطلاق، ولكلنها إذا روضت ذلت، واستجابت إلى ما تكره، فتمزق حجب البطالة، وتقفز على أسوار المكاره، وتستمر على ما روضت عليه، وتداوم دون كلل ولا ملل،حتى وإن استغرقت هذه المداومة العمر كله.
فالأعمال الصالحة كلها تُضاعَف بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف،إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يُضاعفه الله عز و جل أضعافا كثيرة، بغير حصر عدد، فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
يقول أحد السلف: عالجت لساني عشرين سنة، قبل أن يستقيم لي، ويقول عالجت الصمت ،عما لا يعنيني عشرين سنة، قبل أن أقدر منه على ما أريد،
فهل نستطيع جميعا السيطرة علي ألسنتنا ؟ذلك أننا نكب علي النار بحصادها وقد جاء عن التابعي الجليل أبن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي.
وما يردع النفس اللجوج عن الهوى... من الناس إلا حازم الرأي كامله
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت
يظن بعضنا ممن صام رمضان عشرات المرات، وممن مشي الي المساجد في الظلم وحج وأعتمر مرات عديدة،وتصدق بأموال كثيرة ،أن ما فعله كاف لدخول الجنة والحقيقة أننا لا ندخل الجنة بأعمالنا وحدها ، فكل عمل لا نخلصه لوجه الله، يكون رياء، والرياء كما تعلمون هو أصغر أنواع الشرك بالله ، الدخول الي الجنة رهين برحمة الله لنا جميعا.
يروى أن حمدون بن حماد بن مجاهد الكلبي رحمه الله كان يقول: كتبت بيدي هذه ثلاثة آلاف وخمسمائة كتاب، ولعل الكتاب الذي أدخل به الجنة لم يكتب بعد، لعل هذا مما يعين على المداومة، كلما عملت عملا قلت لعل هذا لا يبلغني الجنة، فإلى آخر وإلى آخر، حتى تلقى الله على ذلك، فربك أغفر وأرحم سبحانه. فجاهد نفسك وداوم على العمل (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99).
وقد لا يتاح لنا شهود رمضان القادم، وقد لا يمهلنا القدر كي نؤدي الصلاة المكتوبة القادمة، صبحا كانت أو ظهرا أو مغربا او عشاء ،وقد لا نعيش حتي وقت الإفطار ،وربما لا يتسني لنا الذهاب الي صلاة القيام ، بل قد لا يمهلنا ملك الموت إخراج هذا النفس (الشهيق)الي زفير،لأن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها .
قال ابن القيم: إن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه،من أجل معبوده؛ فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه، وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم. [زاد المعاد] .
والذين يعلمون ثم لا يعملون أو يعملون بخلاف ما يقولون، ويعلمون بئس ما يصنعون، إنما هي أوعية للعلم يسيرون، ثم لا ينفعون، بل قد يضرون، جلسوا على باب الجنة ، كما يقول ابن القيم: (يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعون إلى النار بأفعالهم، كلما قالت أقوالهم: هلموا اسمعوا، قالت أفعالهم: افرنقعوا لا تسمعوا لو كان حقا ما يدعون إليه كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصور هداة مرشدون أدلاء، لكنهم في الحقيقة قطاع طرق). أذلاء وما هم بأجلاء، بئس ما يصنعون. (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة:5). ما يغني الأعمى معه نور الشمسي لا يبصرها، وما يغني عن العالم كثرة العلم لا يعمل به، إنما هو كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه، عليه بوره ولغيره نوره، يحق عليه قول القائل:
فأسعدت الكثير وأنت تشقى ......... وأضحكت الأنام وأنت تبكي
خير من القول فاعله وخير من الصواب قائله :
ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب السبيل وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ ... والماء فوق ظهورها محمول
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يعملون بما يعلمون ،وأن تكون اعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم إنه سميع مجيب الدعاء . كان الحسن يقول: ابن آدم إنك تموت وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك.
ابن آدم: لو أن الناس كلهم أطاعوا الله وعصيت أنت لم تنفعك طاعتهم، ولو عصوا الله وأطعت أنت لم تضرك معصيتهم.
ابن آدم: ذنبك ذنبك، فإنما هو لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى، فإنما هي نار لا تطفأ وجسمٌ لا يبلى، ونفسٌ لا تموت.
تأمل في الوجود بعين فكر ... ترى الدنيا الدنية كالخيال ِ
ومن فيها جميعاً سوف يفنى ... ويبقى وجه ربك ذو الجلال
وما أجمل ما قاله شاعر في غفلتنا :
يَا نَفْسُ توبي فإنَّ الموتَ قد حانَا ... واعصِي الهَوى فالهَوى ما زالَ فَتانَا
أَما تَرينَ المَنايَا كيف تَلقُطنَا ... لقطًا فَتلحقُ أُخْرَانَا بأُولانَا
في كلِّ يومٍ لنَا مَيتٌ نُشيعُه .... نَرَى بِمَصرَعهِ آثَارَ مَوتَانَا
يَا نفسُ مَالي ولِلأموَالِ أَترُكُهَا .... خَلفِي وأَخرجُ من دُنياي عُريانَا
أَبَعْدَ خَمسينَ قد قَضيتُهَا لَعبًا .... قد آنَ أنْ تَقصُري قَدْ آنَ قَدْ آنَا
ما بَالُنَا نَتعامَى عن مَصَائِرنَا .... نَنْسَى بِغفلتِنَا من لَيسَ يَنْسَانَا
نَزْدَادُ حِرصًا وهذَا الدَّهرُ يَزجرَنَا .... كانَ زَاجرنَا بِالحرصِ أَغرانَا
أينَ المُلوكُ وأَبناءُ المُلوكِ وَمَن .... كَانت تَخر له الأَذقانُ إِذغانَا
صَاحتْ بهم حَادِثَاتُ الدهرِ فانْقلبُوا .... مُسْتبدلينَ من الأَوْطانِ أَوطانَا
خَلَّو مَدائنَ كانَ العِز مَفرشُهَا .... واسْتفرشُوا حُفُرًا غُبرًا وَقِيعانَا
يَا رَاكضًا في مَيادِينِ الهَوى مرحًا .... وَرَافلاً في ثِيَابِ الغَيِّ نَشوَانَا
مَضى الزمانُ وولَّى العُمرُ في لعبٍ .... يَكفيكَ مَا قَدْ مَضى قَد كانَ ما كانَ
ولنا في سلفنا الصالح منذ صدر الإسلام الأول، والي يومنا هذا،عبر كثيرة، في التقوى بمعناها الحق ، فقد كانوا يخشون الله في كل حركاتهم وسكناتهم، والقصة التالية واحدة من ملايين النماذج المضيئة، في الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل .
كان في العراق شاب جميل غني، اسمه "ثابت بن النعمان"، فارسي الأصل، تقي ورع، كان يتوضأ يومًا من النهر؛ فرأى تفاحة فأكلها! ثم خاف أنْ يكون أكلها حرامًا؛ فبحث عن شجرتها حتى وصل إلى صاحبها، فأخبره الخبر، وقال له: سامحني! قال الرجل: لن أسامحكَ إلا بشرط أنْ تتزوج ابنتي، وهي عمياء، صماء، خرساء!! ففكّر ورأى أنَّ الدنيا موقوتة، وأنَّ عذابها بهذا الزواج أيسر، من عذاب الآخرة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قد قبلتُ!
فزوجه بها، ولما دخل عليها، وجد فتاة كأنها القمر، ذات فهم ودين! فقال لأبيها: لم قلتَ: إنها عمياء، صماء،خرساء؟ قال: لأنها لم تَرَ الرجال، ولم تسمعهم، ولم تكلمهم!
ومن هذين الزوجين الصالحين ،الجميلين الغنيين، وُلِد صبي، قُدِّر له أنْ يكون له جمالهما ، وأنْ يكون آية الآيات، وأعجوبة الدنيا، في الذكاء والعلم، وهو النعمان بن ثابت، هذا اسمه، أما (أبو حنيفة) فكنيته، ولم يكن له بنت اسمها (حنيفة) ولكن الحنيفة: الدواة بلغة العراق العامية، كنَّوه بذلك لحمله (الدواة) مِن صغره، ودورانه على العلماء.
كم مرة سترنا الله حينما ارتكبنا ذنوبا كبارا ؟وكم من الوقت أمهلنا ونسينا أنه يمهلنا حتى إذا أخذنا ..أخذنا أخذ عزيز مقتدر ؟ كم مرة لم نخلص فيها أعمالنا لله،رغم علمنا أن الإخلاص هو طريق نجاتنا الوحيد؟ ودونكم هذه القصة البليغة التي وقعت لرجل كان يتدثر في ثياب النساء وينتهك أعراضهن في المناسبات :
كان رجل يخرج في زي النساء، ويحضر كل موضع يجتمع فيه النساء، من عرس أو مأتم، فاتفق أنْ حضر يومًا موضعًا فيه مجمع للنساء، فسُرقَت دُرَّة فصاحوا أنْ: أغلقوا الباب حتى نفتش! فكانوا يفتشون واحدة، واحدة، حتى بلغ التفتيش إلى الرجل، وإلى امرأة معه، فدعا الله تعالى بالإخلاص، وقال: إن نجوتُ مِن هذه الفضيحة، لا أعود إلى مثل هذا! فوُجِدَت الدُّرة مع تلك المرأة، فصاحوا أنْ: أطلقوا الحرة فقد وجدنا الدُّرة!
دخل رجل غَيْضَة ذات شجر(غابة) فقال: لو خلوتُ ههنا بمعصية مَن كان يراني..؟ فسمع هاتفًا بصوت ملأ الغيضة: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟!
وكان ابن السماك ينشد:
يا مُدمِن الذنبِ أمَا تستحيي، واللهُ في الخلوةِ ثانيكا
غرَّكَ مِن ربِّكَ إمهالُهُ وسَتْرُهُ طُولَ مَساوِيكا
لذلك قد يسترنا الله مرة ومرتان وثلاث، وربما أكثر لكنه يمهلنا ،عسانا نتوب إليه توبة نصوحة قبل فوات الأوان .
ينسى الكثير سنوات عمره التي مضت، وأيامه التي انقضت، ولا ينسى شيئًا من أمور الدنيا.. كأن الهدف جمع الدنيا والتفرغ لها. هذا يحيى بن معاذ يقول: عجبت ممن يحزن عن نقصان ماله!! كيف لا يحزن على نقصان عمره؟! نجمع المال لندرك السعادة.. ونبني القصور لنسكن الأنس في قلوبنا.. ونسافر لننسى أحزاننا، نسير في كل الطرق، وننفق ما في أيدينا لنستمتع بالسعادة ، ولكن هل هذه هي السعادة. هناك من طرق هذه الأبواب قبلنا، وجرب هذه الدروب معنا، ولكننا جميعا متفقون على أن السعادة في طاعة الله والقرب منه، والعمل لدار سعادة لا شقاء فيها ولنعيم لا زوال عنه.
الرزق يشغل بال معظمنا، وتربية الأولاد وتعليمهم هي الاخري، تأخذ الكثير من وقتنا ، والفضائيات والانترنت،وهموم الحياة الاخري، تأكل أعمارنا كالنار في الهشيم، تخيلوا أن ثلث أعمارنا نقضيها نوما، وثلثها الثاني في اللهو واللغو والنميمة والقطيعة ، والثلث الأخير يذهب بين العمل وغيره ، فكم تركنا من وقت لنعد زادا للرحيل ؟
جاء رجل إلى الحسن فشكا إليه الجَدْب، فقال: استغفر الله، وجاء آخر فشكا الفقر،
فقال له: استغفر الله، وجاء آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال: استغفر الله، فقال أصحاب الحسن: سألوك مسائل شتى وأجبتهم بجواب واحد وهو الاستغفار؟ فقال رحمه الله: ما قلت من عندي شيئا، إن الله يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً).
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلبًا ولا عن النار مهربًا، أولها: من عرف الله وأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها.
ومن تأمل في مزرعة الدنيا ووقت الحصاد رأى أن الأمر جد لا هزل فيه، وتشمير لا هوادة فيه. فمن قدم بين يديه اليوم رآه غدًا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.. يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.. وتضع كل ذات حمل حملها وتري الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يوم تتطاير فيه الصحف.
قال عبدالله بن المبارك:
رأيت الذنوب تُميتُ القلوب وقد يورث الذل أدمانها
وتَركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفسِكَ عِصيانُها
وأخيرا :
الدنيا سراب ممتد وليل مظلم.. طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا فإنه لا حد لها ولا منتهى إلا بالقناعة والزهد والرضى بما قسم الله، والاستفادة من مرور الليالي والأيام في طاعة الله.
تفكروا أخواني وأخواتي في الله ما في الحشر والميعاد، ودعوا طول النوم والرقاد، وتفقدوا أعمالكم، فالمناقش ذو انتقام، إن في القيامة لحسرات، وإن عند الميزان لزفرات، فريق في الجنة وفريق في السعير، ففريق يرتقون إلى الدرجات، وفريق يهبطون إلى الدركات، وما بينك وبين هذا الأمر إلا أن يقال فلان قد مات.
بقلم : سليم عثمان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.