مثل كثيرات اغتربن عن أهلهن لأجل العمل تمني "عفاف" نفسها بالعودة لحضن الأهل بعد أن افتقدت دفء العائلة وما توفره لها من أمان وهو إحساس تفتقده في غربتها. وتقول "عفاف" بلسانها لكنها تعبر عن كثيرات غيرها: "أقيم في هذه الحجرة منعزلة منذ قدمت إلى هذه القرية، فلا شيء يشدني إليها، بل إن كل شيء فيها يبعث الملل في داخلي، يبعثرني، كما هي حال الحجرة التي تشاركني فيها زميلتي". وتضيف: "الناظر إلينا يظن أننا نشترك في كل شيء، في حين أننا نتقاسم كل شيء حتى الوحدة! وفي كل ليلة تأتي أمني نفسي بالرحيل لأستيقظ وأنا لا أزال هنا مغتربة عن أهلي للعمل". وتجلس "عفاف" على مقعدها أمام مكتب الحجرة المبعثر الذي لا يمكنها أن تجلس عليه إلا ليوم واحد في الأسبوع، وذلك لتحضير درسها للطالبات. أما إن رفضت فإن عليها أن تسهر طوال الليل. وهي دائماً ما تختار الاختيار الأصعب، كونها لن تستطيع النوم في الحالتين، فبعض الطالبات والمعلمات اللاتي يقمن معها يسهرن ويحدثن ضجيجاً بأشكال مختلفة؛ تارة بالمذياع، وتارة بصوت غسالة الملابس، عدا أصواتهن وأصوات الأطباق التي تغسل في المطبخ؛ إذ إن بعض من عليهن الغسيل يفضلن أن ينجزن عملهن بالليل. وتمسح بيمناها على سطح المكتب وهي تتذكر تلك الأيام التي كانت تقضيها بين أفراد أسرتها وتتحسر على تلك الأحلام التي رسمتها عن هذا المكان، فقد كانت تتوقع أنها عندما تعيش وحدها مع مجموعة من الفتيات في مثل سنها وظروفها سيكون الوضع العام جيداً؛ إذ لم يخطر ببالها- ولو لحظة واحدة- أنها ستتشاجر معهن أو ستجد من يتكل عليها في كل شيء بعد أن كانت تتكل على والدتها والخادمة. كانت تظن أن الاغتراب للعمل سيكون مختلفاً وممتعاً كما كانت تسمع عنه عندما كانت طالبة بالكلية في إحدى القرى المجاورة في غرب المملكة، إذ ينتشر هناك خروج الفتيات للعمل وتغربهن، بل إن التي لا تتغرب للعمل يظن بأنها غير قادرة على العمل أو أنها ليست أهلاً للثقة. ولكنها اكتشفت- من خلال تجربتها- أنها كانت مخطئة، مبررة ما كانت تسمعه بالحظ، فلم تجد عملاً حيث صديقاتها أو بعض قريباتها، كما أنها تظن أن بعض الفتيات يحسنَّ التصنع بالسعادة حتى لا يقلق عليهن أهلهن فيعيدوهن وهم بحاجة إلى أن يعملن. تنظر إليها صديقتها وقد لاحظت حزنها لترمقها بنظرة وابتسامة ولسانها يقول: غداً ستعتاد على الوضع، فالمعلمات الجدد اللاتي لم يسبق لهن العمل مغتربات أو لم يغتربن لأجل الدراسة من قبل يمضين وقتاً أطول من غيرهن حتى يعتدن على بيئة أخرى تختلف عن جو الأسرة والأهل. وتدخل "عفاف" حجرتها وتذكر أنها عانت ذلك عندما كانت بسنة أولى اغتراب؛ إذ سافرت وحدها لمنطقة الباحة لإكمال دراستها، لكنها لم تستطع الإقامة في سكن الطالبات، لكثرة المشاكل مع الموظفات وأحياناً الطالبات، ما جعلها تستأجر شقة مع بعض قريباتها حتى انتهاء فترة الدراسة كاملة، وقد كان التفاهم يسود علاقتها بقريباتها. وتصمت قليلاً وهي تنظر للمكان حولها لتقول بصيغة التقرير:"لا مقارنة بين وضعي هنا ووضعي هناك"؛ إذ يغلب على الشقة التي تسكن فيها الآن الاختلاف فلا شيء يبدو مشتركاً عدا اللهجة. فلا يجمعهن سوى السكن الذي يستأجرنه جميعاً ليتمكن من دفع الأجرة وللإحساس بالأمان. لكن الحارس الذي يدفعن له أجرة الحراسة ليس ملتزماً معهن، وإن ادَّعى بأنه لا يترك مكانه، فعندما يحتجنه ويتصلن عليه ليجلب لهن أشياءهن من السوق أو المكتبة يكتشفن أنه ذهب لمكان يجهلنه، بل إنه ينام في أحد الممرات في قرية أخرى ويتركهن. وعندما يبلغن أهاليهن بذلك يدَّعي أنه يذهب ليعزي في ميت فيتأخر ما يجعل ذويهن لا يتجاوبون مع شكاويهن في مقبل الأيام لأنه يحسن خلق الحجج المقنعة. تتنهد لتسرق منها "مغتربة أخرى" اهتمامها إذ تدخل إلى الشقة حاملة "تموين الشهر الغذائي" التي تتهم عندما يحين دورها بشراء ما لا يناسب- إذ إن المطبخ ليس مجهزاً بالكامل ما يجعل أمر طبخ بعض الأطعمة ضرباً من الخيال- بينما هي لا تبدي لهن اهتماماً. فهي إما أنها تحضّر درسها أو تسمع المذياع، ما يخولها لأن تكون حكماً بينهن في حالة حدوث مشكلة، وهي من الأمور الحاصلة والمعتادة في شقة لا يسكنها سوى فتيات لم يتجاوزن الخامسة والعشرين من عمرهن ويشعرن بضيق المكان والنفس؛ إذ لا يخرجن إلا بقدوم أهاليهن في العطل الأسبوعية لأخذهن. وبينما هي تستمع للمذياع وهي تنظر خلسة من خلف ستائر الحجرة التي تطل على مكان الحارس لتتأكد من وجوده فتراه ينظر صوب النافذة تارة ولساعته تارة وكأنه يسأل نفسه متى تطفأ أنوار الحجرة؟ وترقبه وهو يفكر قليلاً ثم يمسح على لحيته القصيرة الحمراء لبرهة ليمضي بعدها مبتعداً عن سكنهن ليبقى الأمر مخيفاً ل"عفاف"، خشية أن تذهب ورفيقاتها ضحية متمردين يسلبوهن شرفهن. وتشيح بنظرها للخلف وتستقر عيناها على تلك الصحيفة الورقية التي حملت صفحتها الأولى عنوان: "3 سنوات لمعلمات مغتربات انتهت بغفلة سائقهن فاحترقن"، ليبقى السؤال الذي أصبح هاجساً لها: من يعطي الأمان لهن؟