الإنسان حر. وبعبارة علماء الكلام: مخير لا مسير. ولو كان يفعل كما يفعل الروبوت الآلي الذي يبرمج على أنشطة محددة فلا مبرر من المسؤولية وبالتالي الثواب والعقاب ومفهوم العدالة. فلو افترضنا أن رجلا برمج روبوتا (إنسانا آليا) لكي يلتقط المسدس ويطلق النار على شخص آخر فإنه سيكون من الجنون وضع الروبوت في قفص الاتهام. والسبب بسيط: وهو أن الروبوت ليست له إرادة حرة. إنه غير حر. وإذا كان هناك أحد مسؤولا فهو بالطبع الرجل الذي برمج الجهاز على القتل. فالرجل حر ومريد وعاقل. من الضروري أن نتفطن للعلاقة الوثيقة بين العقل والحرية والإرادة. والعقل الذي يفتقد له الروبوت ليس فقط الوعي الذي يمتاز به البشر، بل الرشد الذي يمتاز به الكبار على الأطفال. فالطفل رغم أنه عاقل إلا أنه ليس راشدا ومن ثم فحريته منقوصة تبعا لهذا ولا يكون مسؤولا قانونيا أو أخلاقيا عن فعله. كما أن رغبة الطفل وإرادته لا تكون مستحقة للفحص القانوني والأخلاقي مادام عقله غير راشد. الحرية التي هي الإرادة والعقل الراشد ضرورية لفكرة المسؤولية الأخلاقية والقانونية. لكن، هل هناك فرق بين المسؤولية الأخلاقية والقانونية؟ هناك من يربط بينهما ويجعلهما مترادفان. ولكني أرى أن هناك فرقا. لو تأملنا لوجدنا كل فعل أخلاقي ينطوي على أربعة عناصر: الرغبة، المعرفة، القدرة، الإنجاز. وقد صنفت الأفعال تبعا لتوفر العناصر أو غيابها إلى ستة: الفعل الكامل: وفيه تحضر العناصر الأربعة. فإذا مثلا سكبت كوب القهوة لأني (أرغب) في ذلك و(أعرف) أنه كوب قهوة و(أقدر) فعليا على أن أمد يدي وأسكب الكوب و(أنجزت) ذلك فعليا فإن هذا الفعل كامل. والفعل غير الكامل هو ما أتوقف في اللحظة الأخيرة عن إنجاز الفعل. لنقل إني غيرت رأيي. والنوع الثالث: الفعل المظنون وفيه يتوفر عنصر الرغبة والقدرة والإنجاز ولكن عنصر المعرفة يغيب. ولكنه غياب جزئي. في المثال السابق، لو رغبت في سكب كوب القهوة وفعلت ذلك ولكني اكتشفت لاحقا أنه كوب شاي. الفعل هنا مظنون لأني رغبتي مرتبطة بسكب القهوة لا الشاي، وسبب الخطأ أن معرفتي ناقصة (ظنية). والمثال الشهير من مسرحية شكسبير حينما رأى هاملت أن وراء الستارة رجلا فقتله.. لكن الرجل كان بولونيوس. في الواقع أن هاملت لم يرد قتل بولونيوس.. فالجهل (وهو ليس جهلا كليا لأنه يعرف أن هناك رجلا لكن يجهل أنه بولونيوس) جعل مسار الرغبة ينحرف. الفعل الرابع السلبي وهو ما غابت عنه الرغبة وتوفرت باقي العناصر. حينما يتبرع رجل للفقراء وهو غير راغب ففعله سلبي، وتبعا لإيمانويل كانط فهذا هو الفعل الأخلاقي الصحيح. أو مثلا، حين أضرب زميلي في العمل لأني كنت غاضبا رغم أني لم أرد ضربه. الفعل الخامس العشوائي وهو غياب المعرفة كليا. وهنا جهل تام. مع توفر العناصر الأخرى، كما في لعبة النرد، فإذا (رغبت) في أن يستقيم الحجر على الرقم ستة فإني أجهل كليا الطريقة لإنجاز الرغبة. فالمعرفة التي من شأنها أن تربط بين الرغبة والإنجاز مفقودة. ومن ثم فهو فعل عشوائي. النوع السادس: الفعل المزيف: وفيه تغيب الرغبة والمعرفة وتحضر القوة والإنجاز. فلو ضرب أحد يدي والتي بدورها ضربت الكوب فانسكب فإني لم أكن أرغب في سكب الكوب ولم أكن (أدري) أن يد صاحبي ستضرب يدي. وأغلب الأفعال غير العمد من هذا النوع. بناء على ما سبق، يتضح أن المرء يكون مسؤولا أخلاقيا في الأفعال التي تحضر فيها (الرغبة) و(المعرفة). فالنوعان الأول والثاني مثال لهذا (أي الفعل الكامل والفعل غير الكامل). وأما المسؤولية القانونية فلا بد فيها من توفر شرط المعرفة فقط. ففي الفعل المظنون، لم يكن هناك غياب كامل للمعرفة، بخلاف الفعل العشوائي. وفي الفعل السلبي (الكانطي) تحضر المعرفة أيضا رغم غياب الرغبة، وحضور المعرفة يجعل المرء مسؤولا قانونيا وغياب الرغبة يجعله غير مسؤول أخلاقيا. أما الفعلان العشوائي والمزيف فنلاحظ غياب المعرفة فيهما وهذا يكفي لأن يكون المرء الذي يقوم بهما غير مسؤول أخلاقيا لغياب اجتماع عنصري المعرفة والرغبة، وكذلك غير مسؤول قانونيا لغياب المعرفة. مما سبق يتضح أن أهم عنصرين في الفعل الأخلاقي ليكون تحت طائلة المسؤولية هما الرغبة (الإرادة) والمعرفة (أو العقل الراشد) اللذان أشرنا لهما في مطلع المقال بوصفهما شرطين ضروريين لحرية الإرادة.