عندما يقرر الطالب بعد تخرجه وحصوله على البكالوريوس إكمال دراسته في أحد حقول الدراسة العلمية أو الصحية، فالاختيار بين التخصصات العلمية لن يكون عسيرا، فمتطلبات السوق ليست غامضة أو خاضعة لأي تحيزات أيديولوجية. الاختيار بين المسارات العلمية أو الصحية يخضع لاختلافات في التكنولوجيا والعوامل المادية عكس تخصصات الدراسات الإنسانية، التي تتضمن الاطلاع على ثقافات الشعوب وتحديدا في مجال اللغة والأدب. فالاختلاف هنا ليس ماديا بل ثقافيا، يتضمن القيم والمُثل والصفات الذهنية والأخلاقية والاختلاف في الانتماءات بالدرجة الأولى، بالتالي فالطالب في مسارات التخصصات الإنسانية قد يكون عرضة للتحيزات الأيديولوجية. لا ننكر أن العالم يشهد تقاربا إنسانيا وقبولا متزايدا بقيم وثقافات مشتركة بين شعوب العالم، ولكن مثل هذا التوجه يسير في اتجاه أحادي، يصب في صالح الثقافة الغربية غالبا، والتخصصات الإنسانية بالجامعات العربية - اللغة والأدب على وجه الخصوص- كانت على الدوام ضحية للثقافة الغربية لأن حضورها ظل مشبعا بالأيديولوجيا المحتقنة وأزمات الهوية وجلد الذات. تحضر الثقافة الغربية في أقسام اللغة والأدب بوصفها بديلا أو مناهج ودراسات جديدة أو لسانيات حديثة، ووصف أي دراسة أو منهج ب «حديث» من أشد الأوصاف تحيزا ووصفا مشبعا بالأيديولوجيا المتعصبة. فهي تخلق انقساما غير حقيقي في المؤسسة التعليمية يأخذ طابعا تفضيليا بين الثقافات. فالثقافة الغربية توصف بأنها حديثة وحداثية ومعاصرة بينما توصف الثقافات الأخرى بأنها تقليدية وتراثية وقديمة، ونتيجة لذلك فهي ليست صالحة وغير مواكبة للعصر. الانقسام بين ثنائية «القديم والجديد» هو انقسام ثقافي في جوهره، فالثقافة والقيم الغربية تروق لأناس من ثقافات مختلفة لأنهم ينظرون إليها بأنها مصدر للقوة العسكرية والثروة الاقتصادية التي حققها الغرب، والشعوب غير الغربية تبحث عن سر نجاح الغرب في القيم والأعراف وتسعى لتطبيقها في مجتمعاتها. مثل هذا الانقسام الأيديولوجي غير حاضر بهذه الحدة في الأقسام العلمية والصحية، لذلك غالبا ما يبدأ طالب الدراسات العليا في اللغة والأدب رحلته الدراسية بمرحلة الإغواء والإدماج التي تربطه بأيديولوجيا قد تفرض عليه تبعية فكرية معينة، ربما تصل مستوىً مأزوما يصل للتهجم والتحقير لثقافته وهويته وتراثه. فالأجواء الأكاديمية في الجامعات العربية تكتسي بالمناورات والصراعات الفكرية التي تصل مستوى العنف الرمزي كاستعمال أوصاف ذات مدلولات إقصائية كالتراثي والتقليدي، وهي أوصاف شائعة جدا في أقسام اللغة والأدب، قد يوصف بها الأستاذ أو المشرف الأكاديمي أو طالب الدراسات العليا نفسه. الخصومات الفكرية بين الأساتذة قد تمتد للطلاب الذين يستخدمون أحيانا كوكلاء عنهم، فالعلاقة بين طالب الدراسات العليا والمشرف الأكاديمي ليست صحية دائما، وقد تفرض على الطالب أحيانا مسايرة أستاذه، فهو يدرس لغرض الحصول على الدرجة العلمية، ولا يريد أي منغصات تعرقل مسيرته، فقد وصل بعض الأكاديميين لمستوى من الغرور يوهمه بأنه قادر على توجيه أهداف المؤسسة التعليمية ثقافيا لمسارات يختارها هو. ويستخدمون تقنيات بلاغية تزودهم بالقدرة على خداع بعضهم بعضا والتعتيم على أي تحيزات ثقافية مطروحة. فهم يسعون لاختيار كلمات تبدو علمية للإيحاء بحداثة ما يطرحون مثل: لسانيات توليدية ولسانيات إدراكية ومناهج ودراسات حديثة، ودراسة بنيوية أو ما بعد بنيوية وحداثية وما بعد حداثية، وكلها مصطلحات فارغة ليس لها معنى واضح ومحدد، ولكنها جزء من علاقات شخصية متجذرة ومعقدة وشفرات للكشف عن ميول وتوجهات يذهب ضحيتها طالب الدراسات العليا الذي قد يقحم في معارك فكرية لا ناقة له فيها ولا جمل. نقلا عن الوطن السعودية