من يقرأ أعمال البروفسور فالح العجمي ويصغي لأحاديثه يشعر بأنه في حضرة باحث مختلف، كونه يتعمد استنهاض تفكيرنا بما يشبه التحريض على عدم التسليم بالمعادلات المقولبة، وقد يقبل العتب على إيغاله في تعرية خطاب لا مفكر فيه، لكنه لا يقبل إتعاب الناس بالتزييف وتعليب الحقائق، حتى وإن وفر له ذلك متاعب التأمل النزية المخلص من النوايا الجشعة، يجمع العجمي بين فطنة الفقهاء وشك الفلاسفة وعقلانية المناطقة وأسلوب السرد المحترم عقول القراء، ومع «عكاظ» أتاح لنا محاورته طمعا في معرفته أو معرفة أطروحاته التي لا تؤمن بخداع الإنسان: يبدو أن اشتغالاتك اللغوية فتحت آفاق البحث والتقصي حد بلوغ اللامفكر فيه هل من حذر منا ينتابك في طرق غير مطروق؟ - الدرس اللساني حقق طفرات عدة لم تواكبها أدبيات التوثيق العربية، وما أنجز أنا أو غيري في إطار بحثي يطمح إلى تحليل الخطابات المتراصة في طبقات يعمي بعضها على بعض، لا بد أن يتناول العناصر البعيدة التي تفيد في اكتمال وضوح الصورة، أما تناول غير المطروق من قبل، وتفكيك خطاب المسكوت عنه، فهو يقع في صلب اهتمامي منذ أن رميت أحجارا متوالية في برك راكدة، دون أن تثير تلك الحلقات المتوالية الناتجة عن اصطدام الأحجار بالسطح الراكد أي اهتمام حقيقي، ما يعني أن الفكر الجمعي لهذه البيئة أصبح متبلدا لا يجتر إلا ما تعود على طعمه ومذاقه ولاكته الألسن مرات ومرات، ولذة تحريك تلك المياه الراكدة لا يعادلها إلا الاعتراف بأن نبض الحياة يدب في عروقنا، وأن التاريخ يوما ما سينصف المخلصين والمجتهدين من البلداء والانتهازيين. إلى أي مدى تجذبك اللغة واللهجات إلى تقصي موروث الأديان والمذاهب؟ - شأن اللغة ودوامة لهجاتها وتراثها الغني المتجدد عصي على الفهم، إلا إن رافقه شوق من يكابده لذلك النوع من المعاناة، ولن يتفهم بعض الناس اندفاعي في هذا المكان الذي وجدته ثريا وعبقا بتراث لغوي ولهجي يكاد لم يمس بالدرس والتحليل، فقد كلفت بعض طالباتي بجمع أشياء من لهجات متميزة في جزر عمانية، ولدى قبائل قادمة من مناطق متفرقة، بعضها يقع إلى الشرق من خليج عمان واستغربن حرصي على معرفة أصول تلك اللهجات، وبذل الجهد الذي كان كثير من الناس يعتقدون أنه لا يبذل إلا من أجل ترقية أو مال، والأمران غير موجودين في حالتي، لكن شيئا من الانتشاء يتحقق بداخلي، عندما أضيف إلى ما أعرفه مما يهمني مداخل جديدة، وهي –لعمري– فضول البحث العلمي الذي يقتلك الجمود فيه عند حدود معينة، أو الاكتفاء بما تتوصل إليه في مرحلة من المراحل، حتى وإن كان مرضيا لغيرك وثريا في عمقه،أما الانجرار إلى موروث الأديان وفروعها المتطورة من المذاهب، فهو أمر مرتبط بالشغف الدائم عندي بالبحث عن جذور الظواهر أنثروبولوجيا. وطبيعي أن التنقيب عن العادات الموروثة التي تتأصل أكثر ما تكون بواسطة التعليمات الدينية المتراكمة، أو الاقتناع بالمرجعيات القائمة في مذهب معين، مع ما تمليه الكاريزما المتصف بها رجال الدين أو المذهب السائد من سيطرة عقلية تجعل أقوالهم وترجيحاتهم للعادات الموروثة تكتسب مصداقية كبيرة. هل تمت قراءة بيئة وإنسان الجزيرة العربية بموضوعية؟ - لا لم يتم أي من ذلك بطريقة ممنهجة وواضحة، فكل ما جرى عمله في بعض الدراسات الأجنبية لا يبنى عليه في الدراسات المحلية، بل إنه يحارب بوصفه مغرضا وجزءا من المؤامرات على الأمة، وبدلا من ذلك تسعى أغلب الاتجاهات المحلية إلى ترديد المقولات السابقة، والخروج بنتائج جاهزة قبل أن تسترسل في تقصي أي ظاهرة، وما يكون بعد ذلك هو ملء الفراغات فحسب. أين تكمن أزمة العرب اليوم، أعني الوعي؟ - أزمة العرب اليوم تكمن في اشتغالهم بالسياسة عند تناول الثقافة، واشتغال الثقافة في عقولهم عند تصديهم للمواقف السياسية، لهذا كان وعيهم بالثقافة وعيا سياسيا تمليه النخب المسيطرة بشتى أنواعها، بينما يعرقلهم التفكير من داخل الثقافة الخاصة عن إمكان الإحاطة بما يتوجب عليهم فعله سياسيا، فالأحداث السياسية لها عواملها، ومتطلبات التأقلم معها تستدعي فهما لثقافات الآخرين، وليس الانطلاق من الثقافة الخاصة في النظر إلى الصديق أو القيم المطلوبة في المواقف، أو حتى الاجتهاد فيما يظن الآخرون أنه مناف لمصالحهم. ما رأيك بأطروحات كمال صليبي؟ - أطروحات كمال صليبي كغيرها من الدراسات تقوم على بعض قرائن ومستندات نصية وتحليلات سابقة، ومشكلتنا في هذه القضية وغيرها أننا نروم أن يكون الرأي موحدا، وألا تتعدد الآراء التي يستند كل منها إلى ما يدعمه، طبعا هذا لا يعني أنني أؤيد ما ذهب إليه، لكن أيضا لا نعادي الأشخاص ونحمل أقوالهم النوايا السيئة، بل يمكن أن يرد على كل ما يقوله بحجج علمية من جنس ما ذهب إليه من الآراء. لماذا يتحسس مجتمعنا من نقد التراث؟ - يتحسسون من نقد التراث وتمحيص القديم، لأنهم غير واثقين من مستوى قدرتهم على تعديل ما قد يجدونه غير ملائم للعصر، أو إيجاد البدائل المناسبة، وكثير من الناس هيمنت على عقولهم فكرة مفادها أن أعداء الأمة (وهم دائما متغيرون، لكنهم باستمرار متربصون) يبحثون ليل نهار عن مواقع الضعف في تراث الأمة الإسلامي وتاريخ العرب، لكي ينفذوا منه إلى الطعن في الدين أو التاريخ العربي، ومن هنا نشأت فكرة «المنافحة» التي لا توجد إلا في مجتمعات شوفينية لا تثق بتاريخها ولا بقدرتها على تجاوز الصعوبات المعاصرة. ألا ترى أن هناك إشكالا في تحديد مفهوم المقدس وتداعياته؟ - الإشكال ليس في تحديد مفهوم المقدس، بل في عدم اشتغال العقل، لأن المقدس بحد ذاته ليس عائقا أمام سير الحياة، إلا إن كان مرتبطا بقهر غير المقتنعين بمفهوم القداسة، عند ذاك تكون تداعياته خطيرة على المجتمع، بل وعلى العالم إذا كانت الفئات المتناحرة بشأن أحد المقدسات كبيرة، وهي حالات جرت إلى أحداث كثيرة في تاريخ البشرية من حروب وهجرات ومآس كبيرة. متى يمكننا النهوض فكريا والحضور كمجموعة لا كأفراد في مشهد الإنجازات للبشرية؟ - المعادلة الطبيعية لتنمية المجتمعات البشرية جميعا تقول دائما بأن النهضة لا تحدث إلا ضمن شروط رئيسة، أهمها تكثيف أغلب الجهود للصالح العام، والتنازل الطوعي عن بعض المصالح الخاصة في سبيله، ووجود الحافز الفردي، وطموح البنى الاجتماعية المختلفة لرفع مستوى العمل الجماعي وتطويره، وما ينقصنا من هذه الشروط كثيرا باعتراف المنصفين منا، وكلما توافرت هذه العوامل بقوة ازدادت حظوظ المجتمعات من القدرة على النهوض، والإسهام في رقي المجتمع، وبالتالي زيادة رصيد البشرية من الإنجازات الإيجابية، فمن يقوم بالإسهام الحضاري هي بالعادة مجتمعات المقدمة، في إطار التنمية والاقتصاد الفاعل والرخاء والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون. هل جر عليك البحث في تأريخ الأديان متاعب غير متوقعة، ما أبرزها إن وجدت؟ - المتاعب في هذا الشأن متوقعة لكن درجة السطحية في تفكير بعض من يتصدون للمنافحة عما يعتقدون بأنها حظائرهم هو غير المتوقع، خاصة السقوط في وحل اللغة السوقية، والانتقال من الموضوعات إلى أشخاص الباحثين، وأبرز ما يزعج في هذا الشأن أن من يهاجم الأطروحات العلمية التي يصرف المرء سنوات في تقصيها أناس لا يقرؤون ما يكتب أحيانا، أو لا يفهمون ما يقرؤونه فيجتزئون كلاما ويرددون عبارات خارج سياقها، ويستثيرون عواطف البسطاء بترديد ما يقوله بعض الخطباء منذ عصر الانحطاط. بين صحف إبراهيم وجدل الحداثات تساوق منهجي غير مؤدلج، هل تضر الأيديولوجيا بالبحث العلمي، وتفقده موضوعيته؟ - كتاب صحف إبراهيم كان تفكيكا لبناء العلاقات بين منظومة الأديان الشرقية في حقبة تتجاوز أربعة آلاف عام، أما جدل الحداثات فكان تصنيفا للانساق القيمية (بين التقليدية والحداثة وما بعدها)، وإذا كان الأول تتبعا لتلك الشخصية الأسطورية في مدونات الفيدا وتشريعات مانو وكتب موسى والقرآن بتحليل الأفكار وتمحيصها، ومقارنة الرؤى المختلفة اعتمادا على أبعاد تلك النصوص اللغوية في كل ثقافة ومنتجاتها الطقوسية، فإن الآخر قد اختص بموضوعات لا تتجاوز منظور التلقي لتلك الانساق القيمية، وخاصة في فكر الثقافة الدينية القائمة على رؤية محددة للعالم، لا تعترف فيها بعناصر التحديث والمتغيرات، نعم هناك تساوق منهجي، لكنه بين ذلك التأصيل التاريخي وبين التحليل الثقافي الاجتماعي للحقبة التي نعيشها، أما عن ضرر الأيديولوجيا بالبحث العلمي فهذا مما لا شك فيه، بل إنها تفقده قيمته كليا، لأن الشخص المؤدلج يترك ما تمليه عليه مكتشفات بحثه، ليفتش عن عناصر تدعم أيديولوجيته. كيف نفكك التداخل بين الطقوس والشعائر والموروث؟ - يوجد بين الطقوس والشعائر تداخل مرحلي، حيث تتحول بعض الشعائر إلى طقوس، عندما تدخل إلى دائرة العادات، كما هي الحال في الأضاحي التي تحولت إلى خرفان العيد، والتي يذبحها الناس ظنا منهم أنهم يمارسون شعيرة مقدسة، بينما هم في الواقع يقومون باستعراض ممنهج لإظهار قدراتهم على إطعام الآخرين، أما الموروث فهو ما يجله الناس نتيجة ارتباطه بالأسلاف، سواء كان دينيا، أو مرتبطا بأصل عرقي، أو انتماء طبقي أو إقليمي، أو حتى لهجي أو وظيفي متعارف عليه، وقد يصب بعض الموروث في دوائر الطقوس، ويرتبط بالشعائر في مجال تقديس الممارسات الدينية المتوارثة، أو المذهبية الخاصة، لكن مفهوم الموروث يكون أكبر من ذلك بكثير، لكونه يرتبط أيضا بالإرث الاجتماعي واللغوي واللباس والمسكن والتعامل مع بعض شؤون الحياة. لماذا نتهيب الرمزية مع ورودها في القرآن شأنها شأن المجاز؟ - هذا السؤال له علاقة بما كنت سألت عنه في الأزمة الحالية للعرب، نعم القرآن أكثر جرأة منا في تناول الأشياء، وفي إعطاء الأشياء أسماءها، وعلى سبيل المثال: كان القرآن يعاتب النبي عتابا شديدا في بعض المواضع، ونحن نتهيب من الانتقاص من مقولة أحد رجال الدين مهما صغر شأنه، وإن أتى بما لا يستقيم مع العقل، بل إن المجاز يمكن أن يكون أخطر كثيرا من الرمز، لأنه يؤسس لطرق استقبال متعددة للنص، ويحمل كل دال ما ينقله المجاز إليه، لتتراكم النتائج المستخلصة من تلك الحالة المحسوسة. هل نحن في مخاض تحولات كبرى؟ - المخاض لدينا مر منذ زمن، وما يجري حاليا هي التحولات نفسها فقد آن دفع فواتير التأخر في التفكير النقدي البناء، الآن أصبح العالم بأجمعه مصرا على أن يتولى ترتيب بيتنا من الداخل، فنحن - فيما يبدو- عاجزون عن التشخيص السليم، فضلا عن القدرة على علاج أوضاعنا وفي كتابي «جدل الحداثات» وصفت حقبة السبعينات الميلادية من القرن الماضي بأنها إرهاصات التحول العالمي، ومنها ما يخص منطقتنا من نشأة التطرف الديني المرتبط بانغلاق اجتماعي أدى إلى إعاقات في التفكير وضيق في الأفق وانسداد الرؤية، وكل ذلك أهلنا أن نكون بدلاء للخطر الشيوعي الذي قاومه العالم الحر وانتصر عليه.
