روائح البارود وأصوات قذائف الهاون وبقايا من أوجاع الحرب الأفغانية التي أبت أن تضع أوزارها منذ عقود من الزمن. هكذا تتلخص المأساة العالقة في أذهان الحجاج الأفغان، فأدمغتهم مشغولة بها، حتى وهم يطأون أرض السلام وتراب الأراضي المقدسة، فانعكست هذه الأحداث على دعواتهم وأمنياتهم المستقبلية للدولة المنكوبة التي اكتوت بنيران الحروب المدمرة الممتدة آثارها على أجساد ووجوه أهلها لتحيلهم إلى عالم الجلادة والصبر. حال الحجاج الأفغان يمكن وصفه بأجساد في المشاعر وعقول في الوطن المحطم القابع تحت سلسلة من المتغيرات السياسية والديموغرافية التي تأمل القوى الخارجية تحسنها على وجه الدولة الأفغانية لتذوب كل مؤثرات التجميل، ويبقى الوجه البائس. وعلى ثرى المشاعر المقدسة يتنقل الحجاج الأفغان مشيا على الأقدام متجاهلين كل وسائل النقل والمواصلات المحيطة بهم، فالمسافة بين عرفات ومنى التي لا تتجاوز عشرة كيلو مترات لا تعني في قاموس المشي عندهم شيئا لأنهم اعتادوا التنقل بين جبال كابول الوعرة والقرى المتناثرة. فلم تثن المسافة بين المشعرين الحاج رشيد خان محمد من قطعها مشيا حيث كان يتكئ على عكازيه بعد أن فقد إحدى قدميه قبل عشر سنوات في الحروب القائمة في بلده، لكن كل الآلام لم تمنعه عن رحلة الحج، التي وصفها برحلة العمر وظل 50 سنة يحلم بها، حتى تحققت له هذا العام. وما بين مشعر مزدلفة ومنى، وبالتحديد على مطلع شارع الجوهرة، كان حديث الحاج الأفغاني رشيد عبارة عن رحلة خاطفة إلى دياره الدامية. يقول «أخطر ما يواجهه الشعب الأفغاني عموما، وبالأخص الشباب الأفغاني، هي أزمة الهوية، فالهدف الحقيقي للغزو الأمريكي هو تغيير هوية الشعب عن طريق تغريب أفغانستان وتغييرها نحو الأمركة، والمحاولة لتغليب الإسلام الحداثي أو الإسلام المتحرر». وعلى رصيف شارع سوق العرب في منى جلست عائلة أفغانية ساعة من نهار لالتقاط أنفاسها بعد عناء السير، كان أكبرهم سنا عبدالستار نور ولي يتحدث مع أقاربه بهدوء، ويرمق تواجد «عكاظ» بنظرات استغراب عند الاقتراب منه. وبمجرد افتتاح الحديث مع عبد الستار، بدأ فصلا جديدا من الحزن والموت والحرب ووطن تأبى الحروب هجره، «سنوات طويلة مرت ونحن نحلم بهذه الرحلة فقدنا خلالها من كان يرغب في الحج من أقاربنا الذين اخطتفتهم الحروب وأهلكتهم قذائف الهاون، ماتوا أمام أعيننا ولكن هذا قدرهم وقدر البلد الذي اعتاد أهله على رائحة البارود التي غطت سماء بلدنا ولم تنقشع سحائبها منذ زمن».