مطار الرياض يفوز بجائزة أفضل مطار بالمملكة    وزير الخارجية يعبر لنظيره الإيراني عن تضامُن المملكة    أجهزة كمبيوتر من "مايكروسوفت" مزودة بالذكاء    الهلال يعلن جاهزية سالم الدوسري لمواجهة الطائي    رسميًا.. الاتحاد يعلن رحيل رومارينهو وغروهي    6.7 مليار دولار مساعدات سعودية ل 99 دولة    القوات المسلحة تواصل تمرين «الأسد المتأهب 2024»    عودة الصور المحذوفة تصدم مستخدمي «آيفون» !    6.41 مليون برميل صادرات السعودية من النفط    أمير منطقة تبوك ونائبه يواسيان النبهاني في وفاة والدته    الاتحاد بطلاً لهوكي الغربية    «الموارد»: دعم أكثر من 12 ألف مواطن ومواطنة بالشرقية    أمير الجوف يعزّي أسرة الحموان    استقبال حافل ل «علماء المستقبل».. أبطال «ISEF»    5 فوائد للمشي اليومي    وزير الشؤون البلدية والقروية والإسكان يكرم البواني لرعايتها منتدى المشاريع المستقبلية    أسرة بن مخاشن تستقبل المواسين في مريم    معابر مغلقة ومجازر متواصلة    القيادة تعزي في وفاة رئيس إيران ومرافقيه    مكعّب روبيك.. الطفل العبقري    المسألةُ اليهوديةُ مجدداً    واتساب يختبر ميزة تلوين فقاعات الدردشة    رحلة نحو الريادة في السياحة العلاجية    الراجحي يصدر قراراً بتعديل تنظيم العمل المرن    حلول السلامة الذكية وطائرة «بارق».. «الإلكترونيات المتقدمة» تستعرض قدراتها التصنيعية    8 مواجهات في الجولة قبل الأخيرة لدوري" يلو".. " الخلود والعروبة والعربي والعدالة" للمحافظة على آمال الصعود    أنديتنا وبرنامج الاستقطاب    في الرياضة.. انتظار الحقائق والتطوير    اجتماع اللجنة الأمنية والعسكرية المنبثقة عن مجلس التنسيق السعودي - القطري    تعزيز العلاقات مع "تحالف الحضارات"    10522 خريجًا وخريجة في مختلف التخصصات.. نائب أمير مكة المكرمة يشرف حفل التخرج بجامعة جدة    طموحنا عنان السماء    فراق زارعة الفرح    إحباط تهريب 200 كلغ من القات المخدر    خادم الحرمين الشريفين يخضع لبرنامج علاجي    "تعليم جدة" يصدر نتائج حركة النقل الداخلي لشاغلي وشاغلات الوظائف التعليمية    أمير الرياض يستقبل منتسبي جمعية المتقاعدين    أمير القصيم يكرم «براعم» القرآن الكريم    إجازة لمكافحة التعاسة    ابحث عن قيمتك الحقيقية    لجين تتألق شعراً    مواجهة الظلام    مبادرة الأديب العطوي    نائب أمير جازان يكرم متفوقي التعليم    ما الذي علينا فعله تجاه أنفسنا ؟!    زلة الحبيب    وقتك من ذهب    لا عذر لخائن    تسهيل وصول أمتعة الحجاج لمقار سكنهم    العجب    الذكاء الاصطناعي ومستقبل الوظائف    علاقة معقدة بين ارتفاع ضغط الدم والصحة النفسية    الحامل و الركود الصفراوي    أخصائية تغذية: وصايا لتجنب التسمم الغذائي في الحج    خرج من «البحر» وهو أصغر بعشر سنوات    أمير الرياض يرعى حفل تخرج طلبة الجامعة السعودية الإلكترونية    مفتي الهند يدعوا الله بأن يشفي خادم الحرمين    القيادة تعزّي دولة رئيس السلطة التنفيذية بالإنابة السيد محمد مخبر في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



((اللهم أنت السلام ومنك السلام)) خاتمة كلمات الشيخ عبدالرحمن الصغير
نشر في الخرج اليوم يوم 16 - 11 - 2012

((اللهم أنت السلام ومنك السلام))
خاتمة كلمات الشيخ عبد الرحمن الصغير قبل وفاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد
بعد وفاة الشيخ عبد الرحمن بن علي الصغير عزمت أن أكتب بعضا مما عرفته عنه من أخلاق كريمة وسجايا حميدة تخلق بها الشيخ وتأثر بها من عرفه؛ وكذا جهوده في الدعوة من خلال حضوري لدروسه رحمه الله في سنوات مضت، لكنني خشيت أن يكون هذا من التأبين، فبحثت المسألة فوجدت في فتاوى اللجنة الدائمة في تأبين الميت قولهم ((... وأما مجرد الثناء عليه - الميت - عند ذكره، أو مرور جنازته، أو للتعريف به؛ بذكر أعماله الجليلة ونحو ذلك مما يشبه رثاء بعض الصحابة لقتلى أحد وغيرهم فجائز...)). انتهى.
وقد سئل الشيخ ابن باز عن القصائد التي فيها رثاء للميت هل هي من النعي المحرم ؟
فأجاب: ( ليست القصائد التي فيها رثاء للميت من النعي المحرم، ولكن لا يجوز لأحد أن يغلو في أحد ويصفه بالكذب، كما هي عادة الكثير من الشعراء ) انتهى . (مجموع فتاوى ابن باز).
وحول عدِّ محاسنِ الميت وإبرازِ جوانب شخصيته والثناء عليه وما أشبه ذلك قال الشيخ خالد المصلح (( والذي يظهر لي... ما كان بعد السلوة وبرود المصيبة فلا بأس بذلك من حيث الأصل فإن كان الغرض منه التأسي بالصالحين والاقتداء بهم فإن ذلك مستحب لما يتضمنه من الدعوة إلى الخير والتأسي بالصالحين وعلى هذا بناء كثير من كتب السير والتراجم والأعلام)).
ولما للشيخ عبد الرحمن الصغير من أياد بيضاء في خدمة الدعوة، وقد عرف بالفضل والصلاح والسعي في مصالح الناس؛ فقد عزمت على ذكر بعض ما اتصف به من أخلاق رفيعة وصفات كريمة؛ ليتأسى ويقتدي به الناس والدعاة إلى الله.
** لقد كانت الصلاة على الشيخ عبد الرحمن بن علي الصغير عقب صلاة العصر بجامع الراجحي، ودفن بمدينة الرياض يوم الخميس الموافق 25/11 /1433ه ، وبعد أيام من وفاته اتصل بي الأخ الفاضل محمد بن غازي الحربي يخبرني - نقلا عن أحد أبناء الشيخ - بعبارة الشيخ التي كان يرددها قبل صلاة الفجر، وكذا في أثناء طريقه إلى المستشفى مع أحد أبنائه حيث كان يردد ( اللهم أنت السلام ومنك السلام ).
بعد سماعي لذلك الذكر الذي ختم به الشيخ حياتَه واستقبل به آخرته... اتجهت إلى مكتبتي الخاصة أبحث عن بعض ذكرياتي مع الشيخ، أبحث عن أول كتابين من كتب العلماء عرفتهما في حياتي؛ أبحث عن تفسير ابن كثير وفتح الباري فوجدت واحداً منهما وهو فتح الباري، وأما تفسير ابن كثير فلم أجده فتذكرت أنني سافرت به وقبل رجوعي أهديته مع بعض الكتب لإحدى المكتبات هناك.
أغلقت عليَّ باب المكتبة، وجلست بمفردي، وأخذت جميع مجلدات كتاب فتح الباري وعددها ثلاثة عشر مجلدا - طبعة دار الفكر - وبدأت اتصفح كثيرا من الأوراق، وأقف عند كلِّ ورقه بها تعليقٌ أو تاريخٌ مكتوب، فإذا بتعليقات الشيخ على جنبات الكتاب، وكلما فتحت مجلدا رجعت بي الذاكرة إلى زمن جميل من حياتي، إلى أكثر من عقدين من الزمن، فقد رأيت الكثير من التواريخ في نهاية بعض أبواب كتاب الفتح، وكان أول أو أقدم تاريخ كنت قد كتبته هو: ( يوم السبت - الموافق 1/3/1410ه - كتاب البيوع - المجلد الرابع - صفحة 350 ).
ومن التواريخ أيضا ( السبت - 14/6/1413ه - المجلد 11 - كتاب الدعواتج - ص 144).
ثم وجدت مكتوبا في المجلد الرابع في كتاب البيوع هذه العبارة ( البداية - السبت 22/1/1417ه) فقلت لعلنا قرأنا كتاب البيوع مرة أخرى على الشيخ في هذا التاريخ؛ أي بعد سنوات من قراءته أول مرة، وفي موضع آخر كتبت (الثلاثاء 16/2/1417ه - الساعة 8:20 دقيقة )، وأظنه وقت أذان العشاء وانتهاء الدرس)؛ لأن الدرس ينتهي عند أذان العشاء.
** كانت دروس الشيخ في يومي السبت والثلاثاء، وكانت الكتب التي تقرأ على الشيخ هما ( تفسير ابن كثير ، وفتح الباري )، في مسجد الأمير سلطان رحمه الله - العزيزية سابقا-
** لقد اتصف الشيخ بأخلاق جميلة وخصال حميدة، لا أدري بأيهن أبدأ...
لكنني سأبدأ بابتسامة الشيخ المعهودة التي تعلو محياه عند استقباله لتلاميذه وضيوفه، بل كان لصغار السن من الأطفال النصيب الكبير من تلك الابتسامة؛ فكثيرا ما كان يداعبهم وهو يبتسم لهم ثم عندما يأنس الطفل ؤيرتاح للشيخ يسأله بعض الأسئلة في العقيدة - التي تناسب أعمارهم - وكم كانت فرحته عندما يجيب الطفل!
إنك عندما تقابل الشيخ في أي موقع ترى ابتسامة عريضة تملأ وجهه؛ تشجع الكبار على السؤال في أمور دينهم، وتمنح الشباب الثقة والطمأنينة فيكشفوا بعضا من معاناتهم وأسرارهم للشيخ فيقف معهم ويساعدهم ويأخذ بأيديهم، ولا أذيع سراً إن قلت أن كل من يلتقي الشيخ يظن أنه هو المقدم وصاحب الحظوة لدى الشيخ بسبب تلك الابتسامة!
** ثم أتذكر كم كان الشيخ زاهدا متواضعا في هيئته ولباسه، لكنه والله كان يمثل الجمال بمعناه الحقيقي؛ بما يحمله من العلم والأدب وحسن المعاملة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فكأنه يقول للناس... ليس الجمال بأثواب تزيننا إن الجمال جمال العلم والأدب.
** وكلما عدت بذاكرتي بعيدا إلى تلك السنوات الجميلة مع الشيخ؛ لاسترجع بعضا مما كان يتصف به رحمه الله من جميل السجايا أتذكر وفاءه... وما أجمل وفاء الشيخ؛ ترى ذلك عندما يقابلك بعد غيبة فيسأل عن فلان بن فلان، ثم يقول كان لذلك الرجل موقف معي لا يمكن أن أنساه، ثم تنساب الدعوات من الشيخ وهو يرفع يديه، وفي أحيان كثيرة ينحرف مستقبلا القبلة متمثلا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فصلوا عليه) أي: ادعوا له.
وجربنا و جرب أولونا *** فلا شيء أعز من الوفاء.
وكيف لا يحب الشيخُ الوفاءَ وهو يعلم أن إمَامَه محمداً صلى الله عليه وسلم كان المثلَ الأعلى والقدوةَ في الوفاء وحفظ الود ليس مع المسلمين فقط بل حتى مع غير المسلمين ممن لم يحارب الدعوة ؟ فقد وقف عليه الصلاة والسلام ينظر إلى سبعين من أسرى المشركين يوم بدر فيقول ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء الأسرى لتركتهم له) لماذا ؟ لأنه صلى الله عليه وسلم تذكر موقف المطعم بن عدي معه يوم أجاره بعد رجوعه من الطائف؛ حيث دخل يمشي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام، يحيط به أبناؤه السبعة ليعلن لقريش أن محمدا في جواره فتوقفت قريش عن إيذاء المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى هاجر للمدينة.
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْرَ وَاحِدًا مِنْ النّاسِ أَبْقَى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا
أَجَرْتَ رَسُولَ اللّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا عَبِيدَك مَا لَبّى مُهِلّ وَأَحْرَمَا
** وأما صبر الشيخ رحمه الله فيظهر ذلك جليا في تحمله الأذى واحتساب ما يصيبه عند الله؛ وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكم من شخص أخطأ على الشيخ بالقول أو الفعل فانصرف الشيخ وهو يدعو لذلك الشخص لا يزيد على ذلك، فلا تمر سويعات أو أيام قليلة إلا ويأتي ذلك الرجل يطلب العفو والصفح من الشيخ وقد اغرورقت عيناه بالدموع، فيبتسم الشيخ في وجهه ويصافحه، وقد يصطحبه معه لمنزله؛ إنه التطبيق الفعلي لما تعلمه الشيخ، إنها المعاملة التي تعني الدينَ كلَّه كما قال صلى الله عليه وسلم:( الدين المعاملة ).
إِنّي رَأَيتُ وَفي الأَيّامِ تَجرِبَةٌ لِلصَبرِ عاقِبَةٌ مَحمودَةُ الأَثَرِ
لقد كان الشيخ يتعرض للأذية؛ وهذا أمر طبيعي لمن يدعو إلى الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ لكنه يخفي كثيرا مما يصيبه - وهذا الأمر يعرفه أبناؤه والقريبون للشيخ - ومن المواقف في ذلك أنه كان يؤم المصلين في جامع الأمير سلطان رحمه الله - جامع العزيزية سابقا - وكان قد تم تهيئة مكان مكشوف في غرب الجامع لأداء الصلوات الجهرية أثناء اعتدال الجو، وفي أثناء أداء الصلاة رُمِي الشيخُ ببيضةٍ وقعت على رأسه، وسالت على وجهه، وبعد نهاية الصلاة أخذ الشيخ يمسح الأثر وهو في مكانه، ثم التفت إلى المصلين وقد لف غترته على جزء من وجهه لإخفاء ما قد يظهر على وجهه، وأكمل الشيخ الأذكار ولم يخبر أحدا بما حصل له، ولم يتنبه المصلون لذلك إلا من كان قريبا منه فرأى بعضا من أثر البيض.
إن الشيخ بهذا الصبر يتمثل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيستصغر ما أصابه؛ فإن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم قد أصابه أعظم من ذلك حينما انبعث أشقى قريش - عقبة بن أبي معيط - بتشجيع عددٍ من زعماء الشرك في مكة، فأخذ سلا الجزور فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما سجد وضعه بين كتفيه فضحك الحاضرون من صناديد قريش، وجعل بعضهم يميل على بعض فانطلق إنسان فأخبر فاطمة رضي الله عنها فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه صلى الله عليه وسلم.
لكن الله عز وجل انتقم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في أولئك النفر من صناديد قريش - أبو جهل وعتبة وشيبة... - بعد معركة بدر ( فأشهد بالله لقد رأيتهم صرعى قد غيرتهم الشمس وكان يوماً حاراً).
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف قتلى المشركين وهم يسحبون، ويُلقَون في طويٍ خبيثٍ مخبث من أطواءِ بدر:
يُنَادِيهم رَسُولُ الله لمَّا قَذَفنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي القَلِيبِ
أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقَّا وَأَمْرُ اللّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ ؟
فَمَا نَطَقُوا وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ
وإني أحدث نفسي أحيانا كيف يمكن للشيخ أن يكون بهذه النفس الراضية بما أصابها من الأذى ومن التسامح والدعاء لمن آذاه إلا أن يكون قد وجد لذة وراحة لما يصيبه في سبيل الله لفرحه الكبير بتشبهه بالمصطفى صلى الله عليه وسلم!
** ومن المواقف التي لا زالت عالقة في مخيلتي وعلمتني الكثير فيما يجب في حق الجار من تحمله والصبر على أذاه، أننا كنا في أحد الأيام بعد صلاة العصر في مجلسه؛ التي تطل نوافذُه على الشارع فضُرِبت نافذةُ المجلس بحجرٍ ضربةً قوية أحدثت صوتا مزعجا تضرر منه جميع من في المجلس فقام بعض أبناء الشيخ مسرعين يريدون الخروج كردة فعل لما حدث، فما كان من الشيخ إلا أن أمر أبناءه بالرجوع والجلوس، وأمر بإكمال القراءة وكأن الشيخ يخاطبنا جميعا ويقول بلسان حاله ألم تقرؤوا حديثَ نبيِّكُم صلى الله عليه وسلم (( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))... رحمك الله يا شيخ فقد كان لتصرفك وسلوكك المبني على توجيهات الكتاب والسنة أبلغ الأثر في تصرفات وسلوك أولادك وطلابك ومحبيك.
لقد أحسن الشيخُ إلى جيرانه، ووسعهم بأخلاقه طلبا لجوار الحبيب صلى الله عليه وسلم في الجنة (( أقربكم مني منزلا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
اطلب لنفسك جيراناً تجاورُهم لا تصلحُ الدّارُ حتّى يصلُحَ الجارُ
** ولقد كان الشيخ حريصا على حماية الأعراض وصونها، مشفقا على المرأة لضعفها؛ رحيما بالشباب وناصا لهم، فكان كثيراً ما يذهب للأسواق؛ يوجه وينصح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي هذا الباب ذكر لي أحد الإخوة أن مقاولا من دولة عربية أتى بزوجته وأسكنها في شقة استأجرها في حي العزيزية، ثم حصلت لذلك المقاول مشكلة مادية وتم توقيفه، ولما علم الشيخ تألم لحال الزوجة المسكينة، فذهب للجهة المختصة وشفع لإخراج ذلك الرجل، فأخبروا الشيخ بقضيته وعدم إمكانية إخراجه، فلم يزل الشيخ يسعى بين الجهات المختصة مؤكدا صعوبة بقاء تلك الزوجة المسكينة في بيتها بمفردها، ولم يرجع الشيخ إلا وبصحبته ذلك الرجل؛ لتسعد زوجته وتعيشَ الأمنَ والطمأنينة.
** ويُجمِع الكثيرُ على القبول الكبير الذي حظي به الشيخ عند الناس؛ سواء كانوا رجالا أو نساءً أو أطفالا، وكذا من الأمراء والوجهاء والمسئولين، من أهل البادية ومن أهل الحاضرة.
وعندما أرى هذا الإجماع أتذكر حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ)).
لقد كان قبول الناس - على اختلاف منازلهم - للشيخ عبد الرحمن أمرا مشاهدا على مستوى المحافظة؛ فكان الرجل يأتي من البادية يبحث فقط عن الشيخ - ابن صغير - فإذا وجده سلم عليه وقبل رأسه وسأله ثم انصرف داعيا للشيخ واثقا من جوابه.
وكان تقديرُ الوجهاء للشيخ أمراً معروفا، واحتفاءُ المسؤلين به عند زيارته لهم في مكاتبهم لإبداء النصح في بعض الأمور مشاهدا... وقد كان كلامُ الشيخ ونصحُهُ ينضح بالرحمة والشفقة للمنصوح، وكان الدعاءُ وقصدُ الخير هو السمة البارزة التي جعلت كلماته تصل إلى القلوب.
ولقد كان الشيخ رحمه الله اجتماعيا، يشارك الناس في مناسباتهم؛ يحضر أفراحهم ويواسيهم في مصابهم لا يرد دعوة أحد من الناس إلا لمانع أو ارتباط أو سفر، وكان الناس يفرحون بمجيئه ويستقبلونه ويأخذون بيده حتى يجلسوه في صدر المجلس.
وقد حضر الشيخ الصلاة على رجل من جيرانه وتبع جنازته، فلما انتهوا من الدفن وخرج الناس وإذا بالشيخ يرى ابن المتوفى بعد خروجه من المقبرة يضع المشلح ( البشت ) - الذي كان يغطى به والده بجوار باب المقبرة من الخارج - جهلا من الابن - فيمر الشيخ بذلك البشت وينفضه، ثم يأخذه معه، فلما ذهب لتعزية جيرانه أعطى البشت لابن المتوفى، وأخبره أنه من الميراث لا يحق لأحد أن يتصرف به إلا بإذن الورثة.
لقد أحبَّ الشيخَ جيرانُهُ في الحي حبا كبيرا، وارتبطوا به وقدموه؛ لما اتصف به الشيخ من صفات كريمة وسجايا رفيعة، ولن أنس حادثة - قبل عقود من الزمن - تدل على محبة الناس للشيخ وإيثارهم له عرفتها من الشيخ شخصيا فيما بعد عندما سألني عن أحد جيرانه سابقا في محافظة الخرج - في حي العزيزية - فلما أخبرته بوفاته تأثر الشيخ، وأخذ يدعو له فلما انتهى قال لي ( أن هذا الرجل كان له موقف لا أنساه، فقد علم الرجل بنيتي بترك الحي وإخلاء السكن - لقلة ذات اليد - في ذلك الوقت فوقف معي ذلك الرجل بماله وصبر علي في السداد بعد ذلك) أ.ه.
** ومما يميز الشيخ تمسكه بمنهج السلف وحرصه على تطبيق السنة في جميع أحواله؛ في أكله وشربه وسمته وصلاته ولباسه ونصحه وغيرها... والمواقف في ذلك تطول.
وقد كان الشيخ نعم المعلم والمربي بقوله وفعله فلا يمكن أن ننسى:
- حرصه وتوجيهه لنا بالبدء بأمور العقيدة، وتعليم الناس التوحيد.
- النصح لولي الأمر والدعاء له.
- تحذير الناس من السحرة والمشعوذين وخطورة إتيانهم.
- لعق الصحفة تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
- الرفق بالمنصوح والشفقة به والدعاء له.
- الجلوس في المصلى بعد صلاة الفجر، وصلاة ركعتي الاشراق بعد ارتفاع الشمس قيد رمح.
- محبته لاجتماع الكلمة والبعد عن النزاع والشقاق؛ الذي يضعف الدعوة، ويفرق الإخوة مع عدم ترك النصح والبيان أو تأخيره في كثير من القضايا ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة.
** وعندما أتذكر كرمَ الشيخِ فما أوسع كرمه وما أكثر ولائم الشيخ؛ ولكن الروعة ليست في طول السفرة التي يقدمها الشيخ ولا في اتساعها - وقد شاهدت ذلك مرات عديدة - ولكن الروعة والجمال تكمن في طريقة استقباله المتميز لضيوفه ومحبيه وتلاميذه وجيرانه ومن يزوره، فكلٌ يقول أنا المقرب من الشيخ اعتمادا على ابتسامة الشيخ، وتهلل وجهه لكل أحد...
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله.
وكان الشيخ في مرات عديدة يتناول مع تلاميذه الطعام بعد الدرس، وكان يؤكد على حضورهم ويسعد ويفرح بتواجدهم، ويتحدث معهم ويبتسم في وجوههم:
وما الخَصْبُ للأضياف أن يكثرَ القِرَى ولكنَّما وجهُ الكريمِ خصيبُ
** ومن أجمل وأروع ما سمعته عن الشيخ ولم أكن أعرفه إلا من خلال القراءة في سيرة الأوائل من سلف الأمة، يقول الأخ محمد بن غازي الحربي - وقد رافق الشيخ في أحد أسفاره وكان الشيخ يقدره ويحبه محبة كبيرة - يقول: ( وصلنا إلى مكة وقد أخذ منا الجهد والتعب مأخذه فلما وصلنا إلى السكن كانت الكهرباء (مقطوعة) لكن لشدة التعب وضعنا رؤوسنا واستسلمنا لنوم عميق قال فلما استيقظتُ فإذا بالشيخ وفي يده قطعة ورق من كرتون يهف بها علينا...)، قمة الإيثار والتواضع التي رفع الله بها الشيخ....
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع
** أما همة الشيخ فقد سمت به فوق هام السحاب، ويكفي مثالا واحدا يوضح بجلاء هذه الهمة التي تتقاصر دونها همم كثير من الشباب، فقد جهز الشيخ رحمه الله في عام 1412ه سيارة داتسون غمارتين موديل ( 94 )، وكان هدف الشيخ زيارة مصر ثم المسير إلى بريطانيا مرورا بالأردن وسوريا وتركيا... على أن يتوقف في هذه الدول بعض الوقت للدعوة ثم يواصل السير إلى بريطانيا وكان قبل سفره يراجع وينظر في خارطة ليتعرف على مراحل سيرهم، وتحديد الطريق الذي سيسلكه للوصول لهدفه، وقد عرض الشيخ على بعض الإخوة مرافقته فوافق منهم أربعةٌ وهم ( محمد بن علوش الدوسري (الأمير) - رحمه الله - ومحمد بن غازي الحربي، ومحمد بن سعد المعيذر، وفهد الهزاع )... ولم أتشرف بمرافقتهم لبعض الظروف في ذلك الوقت.
وقد كان تاريخ وصولهم إلى مصر كما أخبرني الأخ الفاضل محمد المعيذر( 12/ 3 /1412ه) وقد كانت جلُّ محاضراتِ الشيخ وكلماتِه وخطبِه في تلك الرحلة عن العقيدة، وقد حدثني بعض مرافقيه أنه كان يذكِّر الناسَ ويلقي الكلمات في أوقات الصلوات الخمس، وأنه ألقى كلمةً في أحد المساجد في مصر؛ أخذ يبين فيها للمصلين أهمية التوحيد، ويحاورهم ويناقشهم ويجيب على أسئلتهم وقد امتد الوقت حتى دخل وقت صلاة العصر، وهو يرفع المصحف بيمينه ويقول لهم إذا أتيتكم بدليل من غير هذا الكتاب العظيم فلا تقبلوه.
وقد مكث الشيخ مع الأخوة في مصر قرابة (نصف شهر) كان خلالها يوزع كتب العقيدة التي أتى بها بأعداد كبيرة، ويدعو إلى التوحيد والعقيدة الصحيحة في كل الأوقات؛ في المساجد وفي المناسبات، وفي المحافظات والقرى ؛ يحذر من الشرك ودعاء الأموات ولسان حاله يردد...
من يسأل المقبورَ يشرك عامداً ما الشرك والإيمان يجتمعانِ
كلُّ الذنوبِ يجوز غُفرانٌ لها لا يُغفرُ الإشراكُ بالرحمنِ
ولما غادروا مصر... لعل الإخوة قد اشتاقوا للعودة لبلادهم وأهلهم فأشاروا على الأمير - محمد بن علوش رحمه الله - بأن يرجعوا للمملكة، على أن تكون الرحلة لبريطانيا في وقت آخر يُحددُ فيما بعد، فاجتمعوا بالشيخ وعرضوا عليه الأمر فوافق الشيخ لأن هذا هو رأي الأغلبية.
** وكان تعامل الشيخ مع طلابه ومحبته لهم كبيرة؛ فكان حريصا على دعوتهم في المناسبات الصغيرة والكبيرة، وكان هو يستجيب لدعوتهم في بيوتهم، وكان يُعرِّفُ بهم عند من لا يعرفهم من العلماء والوجهاء تقديرا لهم، وأذكر أنه بعد انتهاء محاضرة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في جامع عمر بن الخطاب في حي الخالدية قبل أكثر من عقدين من الزمن - فيما أذكر - تقدم الناس يسلمون على الشيخ محمد فلما وصل الشيخ عبد الرحمن الوهيبي اقترب الشيخ عبد الرحمن الصغير من الشيخ ابن عثيمين فعرَّف بالشيخ عبد الرحمن الوهيبي بصوت مرتفع.
والمواقف والذكريات مع الشيخ رحمه الله كثيرة؛ يطول سردها، ولا يتسع المجال لذكرها ولعل أبناءه وطلابه يملكون الكثير من ذلك...
رحمك الله أيها الشيخ المجاهد الداعية المربي؛ لقد أحببتَ الناسَ فبادلوك الحبَّ، ودعوتهم للحق في حياتك فلهجت ألسنتهم يدعون لك بعد وفاتك...
لقد أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر سنينا طويلة في الأسواق تارة، وفي المتنزهات أخرى وعند ملاعب كرة القدم مع أذان المغرب؛ بلا تعب ولا ضجر وبأسلوب رقيق وقلب شفيق، فكانوا يستجيبون لنصحك ويقبِّلون رأسك...
لقد كنت تعيش المحبة والسلام مع الناس فكان الجزاء من جنس العمل فكانت تلك الكلمات العظيمة التي لهج بها لسانُك لتودعَ الدنيا بها ..... (( اللهم أنت السلام ومنك السلام )).......
رحم الله شيخنا ووالدنا، الشيخ الزاهد الورع الصابر عبدالرحمن بن علي الصغير... اللهم اغفر له وارحمه.... اللهم احشره مع الأنبياء والشهداء والصالحين... اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة.‏.. اللهم وكما جمعتنا به في الدنيا على ذكرك فاجمعنا به في الآخرة في جنتك...
‏ اللهم ارفع منزلته وأحسن إليه واجزه عنا خير الجزاء ... إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا شيخ عبد الرحمن لمحزونون.
.....(( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ))......
فهد بن منصور الدوسري
خطيب جامع الملك عبد العزيز بالخرج
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.