الاقتصادية- السعودية تأتي الموازنة العامة هذا العام امتداداً لموازنات الأعوام القليلة الماضية التي يظهر فيها الإنفاق الحكومي بمعدلاتٍ عاليةٍ يطول جميع القطاعات تحقيقاً لرفاهية المواطن أولاً وأخيراً. ورغم أن تحقيق رفاهية المواطن، وإن بدا هدفاً سامياً ومطلباً اجتماعياً في دائرة تلبية رغبات الأفراد، إلا أنه يجب ألاّ يكون الهدف الأول والأخير للموازنة الحكومية! وأخشى أن يفقدنا الاستمرار على النهج الاستهلاكي نفسه، دون الالتفات إلى الجانب الإنتاجي، القدرة على تحقيق تنمية مستدامة، وبناء اقتصاد قوي مبني على صناعات تحويلية أصيلة وبحوث تطويرية وقطاعات تصديرية. ويمكن القول إن الإنفاق الحكومي فيما مضى كان أمراً يمكن تبريره كوسيلة لتشييد البنى التحتية، وتحسين معيشة المواطنين وتلبية احتياجاتهم اليومية، إلا أنه لا يمكن قبول ذلك في الوقت الراهن في ظل منافسة عالمية شديدة وارتفاع نسبة التحضر وتزايد عدد السكان وارتفاع سقف توقعاتهم. ولذا لا مناص من العمل على توجيه الإنفاق الحكومي نحو الاستثمار في بناء صناعات ذات قيمة اقتصادية وليس مصانع تجميعية استهلاكية توظف العمالة الرخيصة الأجنبية تكون الاستفادة منها محصورة في العائد المالي للفرد وليس تحقيق المصلحة الوطنية العامة. ما نحتاج إليه اليوم هو نقلة نوعية في الخطط والسياسات الحكومية في إطار استراتيجية وطنية ل 30 عاما مقبلة تكون بمثابة بوصلة توجه الإنفاق الحكومي نحو أهداف وطنية بعيدة المدى؛ وتحقيق المنفعة الجماعية والمصلحة العامة. هل هناك تناقض بين تحقيق مصلحة الأفراد والمصلحة الجماعية الوطنية؟ الجواب لا.. طالما أن المصلحة الخاصة تقود نحو تحقيق المصلحة العامة. ولذا لابد من التنبيه على أن بعض السياسات العامة، وإن بدت في ظاهرها تحقق المصلحة العامة، إلا أنها في واقع الأمر هي في جوهرها تحقق مصالح فردية ومحدودة. على سبيل المثال عندما تُمنح قروض حكومية سخية تصل إلى عشرات ومئات الملايين من الريالات للمستثمرين دون خطة استراتيجية طويلة المدى ودون شروط والتزامات تضمن تحقيق أهداف وطنية واقتصادية واجتماعية، فإنها لا تقدم قيمة مضافة إلى الاقتصاد الوطني، ولا تسهم في بناء صناعات معتبرة، ولا تحقق نموا اقتصاديا حقيقيا. وهذا يفسر وجود نسبة بطالة عالية، وحالة معينة من الفقر في المجتمع، على الرغم من ذلك الإنفاق السخي للدولة. إن الهدف من التمويل العام لا يقتصر على توفير الخدمات العامة التي تفشل السوق في تقديمها، وإنما هناك جانب آخر على قدر كبير من الأهمية، وهو إعادة توزيع الدخل. والمقصود بإعادة توزيع الدخل هو تحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يستفيد جميع أفراد المجتمع من ناتج العملية الاقتصادية والثروة الوطنية. وإذا كان التمويل العام يرتكز على جانبين: الأول مصدر التمويل وهو يتعلق بمن يتحمل تمويل تكلفة مشاريع الخدمات الحكومية، والجانب الآخر الإنفاق، وهو يحدد من المستفيد ودرجة الاستفادة. وطالما أن التمويل الحكومي في السعودية لا يعتمد على ضريبة الدخل فإن التركيز يكون على جانب الإنفاق. ويتضمن جانب الإنفاق منافع مباشرة مثل القروض الحكومية الميسرة ومنافع غير مباشرة مثل الخدمات والمشاريع الحكومية. وفي حال القروض قد يغيب عنها تكافؤ الفرص، وتكون الفائدة منها محصورة في دائرة ضيقة من المصلحة الشخصية. أما في حال المشاريع والخدمات الحكومية، فإن درجة الاستفادة منها تتفاوت بين فئات المجتمع؛ وبالتالي يؤدي ذلك إلى تفاوت في مستوى الدخل. على سبيل المثال يستفيد رجال الأعمال من الطرق السريعة بين المدن والشوارع داخلها في أعمالهم التجارية، وتحقيق أرباح بينما لا يكاد يستفيد منها المواطن العادي، ولأن تكلفة المشاريع والخدمات الحكومية ممولة تمويلاً عاماً، أي بالتضامن بين جميع أفراد المجتمع، فإن استفادة رجال الأعمال تكون على حساب المجتمع، أي على حساب المواطن العادي! إذ إنه لا يطالب مستخدمي الطريق تجارياً بأي رسوم لتغطية تكلفة استخدام الطريق. وقد يرى البعض أن أصحاب رؤوس الأموال والنافذين هم مواطنون ويتساوون مع الآخرين في المواطنة، ولذا يحق لهم ما يحق لغيرهم؛ لكن يغيب عن هؤلاء أنه ليس من العدل معاملة أصحاب الدخول المختلفة بالتساوي لاختلاف المنفعة المتحققة. وهذا قد يكون مكمن الخلل والتحدي الكبير في نظام المالية العامة والجانب الخفي والمظلم في الإنفاق الحكومي. ما زال هناك اعتماد على ميزانية البنود دون ربط المخصصات المالية بالأداء والتأثير النهائي. وربما هذا ما نفتقده في السعي نحو رفع كفاءة وفاعلية الإنفاق الحكومي. كما أن الاعتماد الكلي على البيروقراطيات العامة في تخطيط وتصميم وإقرار وتنفيذ المشاريع ومتابعتها هو ما يقلل من كفاءة الاستجابة لاحتياجات وتطلعات العموم. والتساؤل المطروح هو.. كيف للتمويل العام أن يسهم في تطوير الاقتصاد ويحقق عدالة التوزيع في الوقت نفسه؟ والإجابة عن هذا التساؤل تكمن في البحث عن آليات تحقق ذلك. وقد يكون إنشاء شركات حكومية تقوم بتنفيذ الأعمال المدنية والإسكانية وغيرها من القطاعات أحد أهم البدائل وأسرعها في تحقيق ذلك. إذ إن هذه الشركات الحكومية ستحقق أربعة أمور: أولاً، كسر حالة الاحتكار من قبل شركات تعد على أصابع اليد الواحدة تقوم بتنفيذ الأعمال والمشاريع الحكومية. ثانياً، تقديم خدمات متميزة ذات جودة عالية تماماً كما تفعل شركتا "سابك" و"أرامكو السعودية"، وهي أمثلة يجب استنساخها. ثالثاً، توفير وظائف ذات دخول عالية تناسب مهارات ومعارف تركيبة الموارد البشرية السعودية. رابعاً، إتاحة الفرصة لجميع المواطنين للاكتتاب بهذه الشركات. هكذا نجد أن هذه الشركات الحكومية تمكن الجميع من الاستفادة من الإنفاق السخي للدولة عن طريق التوظيف والاكتتاب. هذا إضافة إلى بناء خبرة فنية وإدارية تنقل السعودية إلى مصاف اقتصاديات المعرفة. إن الأرقام الضخمة للميزانية العامة ترفع من مستوى توقعات المواطنين، ولكن ما تلبث أن يصيبهم بالإحباط. وهذه مسألة لها تداعيات خطيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني. ومن ثم لابد من توجيه التمويل العام لبناء اقتصاد قوي وتوزيع عادل للدخل.